في مقدمة الجزء الأول من كتاب "غزة: حرب الانتقام المسعورة"، تناولنا تاريخ وحاضر نزع إنسانية الفلسطينيين كوسيلة لتبرير الحروب التدميرية التي تخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وناقشنا تاريخ وحاضر التهجير كأحد أهم الأهداف التي وضعتها إسرائيل في معظم حروبها. كما تطرقنا إلى العقيدة العسكرية التدميرية، وإلى مفهوم "الجيش الأكثر أخلاقية" الذي يُستخدم كأداة دعائية لتنفيذ استراتيجيات ممنهجة لتبرير الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، والتي لا تزال مستمرة حتى كتابة هذه السطور.
مرّ نحو تسعة أشهر منذ إصدار ذاك الكتاب، الذي تألف من نحو 70 ورقة سياسات أعدها خبراء ومحللون حول مختلف القضايا المتعلقة بهذه الحرب، بدءاً من الصحة والتعليم والزراعة، وصولاً إلى الثقافة والخلفيات التاريخية والسياسية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا تغير منذ إصدار الجزء الأول من الكتاب؟ وكيف تطورت الأوضاع؟ وما هي مآلات القطاعات التي دُمرت[1]
ماذا تغير خلال الأشهر الماضية؟
استمرار القتل والتدمير واتساع دائرة العدوان
مرّ خمسة عشر شهراً على حرب الإبادة التي شنتها حكومة دولة الاحتلال على الشعب الفلسطيني، والتي استهدفت كافة مرافق الحياة الأساسية بشكل ممنهج، إذ طال هذا الاستهداف المشافي، والجامعات، والمدارس، ومراكز وخدمات الإيواء، والمرافق الزراعية والمزارع، والطعام، ومياه الشرب، كما شمل تدميراً ممنهجاً لمؤسسات وكالة الأونروا وشيطنة دورها.
نتيجة لذلك، لم يعد قطاع غزة مكاناً صالحاً للحياة البشرية؛ فقد أصبحت مدنه ومخيماته وقراه أكواماً من الركام، بلا بنية تحتية، أو ببنية تحتية متهالكة بفعل القصف والتخريب الممنهج، فضلاً عن تأثير سنوات الحصار الظالم. كما تُمنع أي محاولات جادة للإصلاح أو الترميم، وإن حدثت فإنها تُواجه بالقصف العنيف.
كل ذلك رافقه سقوط عشرات الآلاف من الضحايا بين شهداء وجرحى ومفقودين. كما طالت عمليات الاغتيال الإسرائيلية الصف الأول من قيادات حركة "حماس"، بما في ذلك رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، ويحيى السنوار الذي خلفه في رئاسة المكتب السياسي، بالإضافة إلى استهداف عضو المكتب السياسي للحركة صالح العاروري ومجموعة أُخرى من القيادات السياسية والبرلمانية.
وإلى جانب الاستهداف العشوائي للمدنيين، تعمّد الاحتلال تنفيذ استهداف مركّز ومدروس للكفاءات والخبرات الإعلامية، والطبية، والعلمية، وللمثقفين، والفنانين. فقد جرى استهداف نحو 205 من الصحافيات والصحافيين والعاملين في المجال الإعلامي، بالإضافة إلى الأطباء، ولا سيما الأخصائيين منهم، إذ بلغ عدد الشهداء من العاملين في القطاع الصحي، بما في ذلك الأطباء والممرضين، 1068 شهيداً.[2] كما طالت الاعتداءات العاملين في قطاع التعليم، حيث بلغ عدد شهداء هذا القطاع 910،[3] بينهم عمداء الجامعات ورؤساؤها. هذه الكفاءات التي لا يمكن تعويضها في زمن الحرب تحتاج إلى سنوات طويلة لإعادة تأهيلها.
كما تم استهداف قطاع الزراعة والبيئة بشكل ممنهج، إذ طالت الهجمات شبكات المياه والصرف الصحي، والأراضي الزراعية، والمنتزهات، والحدائق العامة، وقطاع الصيد ومكوناته. وقد أسفر هذا الاستهداف عن تفاقم أزمة الجوع، حيث صنّف قطاع غزة، وفقاً لتقرير التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، في حالة طوارئ، وهي المرحلة الرابعة التي تسبق مرحلة المجاعة.[4]
ولم يقتصر هذا الاستهداف على القطاعات المعيشية فقط، بل امتد ليشمل الفنانين والمثقفين، حيث استُشهد ما يقارب 73 شخصاً من هذا القطاع، بالإضافة إلى تدمير عشرات المؤسسات الثقافية، والمباني التراثية، والمراسم. كما أدى ذلك إلى توقف كامل للحياة الثقافية والفنية في القطاع.[5]
وبطبيعة الحال، لا يمكن تجاهل قضية الأسرى الغزيين الذين زُجّ بهم في عشرات المعسكرات والسجون السرية، حيث تعرضوا للتعذيب، والقتل، والاغتصاب، ووُضعوا في ظروف اعتقال قاسية تتناقض مع جميع القوانين والأعراف الدولية.[6]
أمّا بشأن الشهداء من الأسرى، فالأرقام تظل غير واضحة نتيجة سياسة الإخفاء القسري التي تمارسها قوات الاحتلال. ووفقاً لمعطيات نادي الأسير الفلسطيني وهيئة شؤون الأسرى، فقد بلغ عدد الأسرى الذين أُعلن استشهادهم، منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر، 56 شهيداً معروفين بالاسم.[7] ومع ذلك، تشير تقديرات المؤسسات الحقوقية إلى وجود عشرات الشهداء الآخرين من أسرى قطاع غزة الذين لم يُعلن استشهادهم بسبب سياسة الإخفاء القسري المستمرة.[8] وفي هذا السياق لعبت المؤسسات القضائية والمحاكم في إسرائيل دوراً كبيراً يتماهى مع السياسات التي تنفذها المؤسستين الأمنية والعسكرية فيما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين، وخصوصاً أسرى قطاع غزة.[9]
استمرار مساعي إجبار السكان على الهجرة
في هذا الإطار، كتب عزمي بشارة: "إن الدليل الرئيس، في رأيي، على نيات الإضرار بالفلسطينيين كجماعة، هو إدراك إسرائيل نتائج العقوبات الجماعية ضد السكان، من الحصار والقصف العشوائي للأحياء السكنية، والمدارس والمستشفيات والتجويع. وهذه النتائج بإيجاز: قتل عدد كبير من الفلسطينيين غير المسلحين، التسبب في إعاقات دائمة لعدد أكبر، وتحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للعيش، ما يؤدي إلى هجرة قسرية. والدليل الآخر هو أن العقوبات الجماعية هي سياسة معلنة ذات أهداف انتقامية ثأرية وسياسية."[10]
والواقع أن مخططات تهجير الفلسطينيين من وطنهم، بصورة طوعية أو قسرية، رافقت الحركة الصهيونية منذ ولادتها، وجرى تنفيذها في سنة 1948، وجرى التفكير فيها بصورة جدية بعد عدوان حزيران/يونيو 1967، كما تبيّن من بروتوكولات ومحاضر الاجتماعات والنقاشات التي جرت في جلسات الحكومة الإسرائيلية عقب تلك الحرب، والتي نشرتها صحيفة "هآرتس"، إذ تضمنت تلك النقاشات عبارات مثل "خفض عدد السكان"، و"إخلاء المنازل"، و"ترحيل"، و"طرد"، و"نفي"، و"إفراغ المكان"، وحتى "الترانسفير". كما كانت هذه الكلمات محور النقاشات التي أجراها وزراء الحكومة في الستينيات والسبعينيات حول مستقبل الفلسطينيين في قطاع غزة. وتشير العودة إلى محاضر الجلسات المحفوظة في أرشيف الدولة إلى أن الطموحات الحالية لليمين المتطرف، الهادفة إلى تشجيع هجرة الفلسطينيين من قطاع غزة، ما هي إلاّ صدى لأفكار ومقترحات قديمة طرحها رؤساء حكومات ووزراء وزعماء من اليسار الإسرائيلي، المنتمين إلى جيل مؤسسي الدولة.[11]
فمنذ النكبة في عام 1948، أي التهجير الكبير، لم تمر مناسبة إلاّ وطُرح فيها موضوع التهجير القسري للفلسطينيين والسوريين واللبنانيين. ويُعدّ التهجير القسري والترحيل "الترانسفير" مكوّناً أساسياً في العقلية الصهيونية الإحلالية منذ نشأتها، بغض النظر عن الذرائع العديدة التي تُستخدم لتبرير هذه العمليات.
وكما أشار ماهر الشريف في دراسته حول الخلفية الفكرية لمشاريع التطهير العرقي الصهيونية، فإن زعماء الحركة الصهيونية سوّغوا فكرة الترحيل أخلاقياً بادعاء أن الفلسطينيين "لم يكونوا شعباً ذا حقوق وطنية في فلسطين"، بل مجرد "عرب" يمكنهم الإقامة في أي بقعة من الأرض العربية الشاسعة. ولتحقيق هذا الهدف، عملت الحركة الصهيونية على التقليل من قيمة الحركة الوطنية العربية من جهة، ونفي صفة الكولونيالية عن الصهيونية من جهة أُخرى.[12] ولم يكن مهماً الأدوات التي نُفذت بها عمليات التهجير، سواء كانت عبر مجازر، أو حصار، أو تجويع، أو تفقير، أو تغييب فرص العمل والتعليم، بل وحتى توفير محفزات تدفع الناس إلى الهجرة.
وبالعودة إلى المحاضر التي نشرتها صحيفة "هآرتس" في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2024، يظهر بوضوح طريقة تفكير الجيل المؤسس لإسرائيل بشأن عمليات الطرد والتهجير. فعلى سبيل المثال، قال وزير الدفاع موشيه ديان في 25 حزيران/ يونيو 1967: "إذا استطعنا إجلاء 300 ألف لاجئ من قطاع غزة إلى أماكن أُخرى، يمكننا ضم غزة من دون مشكلة." وأشار في كلامه إلى خطة مقبولة من الحكومة آنذاك، لكنها لم تُنفذ بالكامل، وهي ضم قطاع غزة إلى إسرائيل وإفراغه من اللاجئين الفلسطينيين لاستيطان اليهود فيه.
وفي السياق ذاته، قال ليفي إشكول، رئيس الحكومة في ذلك الوقت، خلال نهاية العام: "بسبب الاكتظاظ هناك، ربما سينتقل العرب من القطاع، لكن حتى بعد ذلك، سيبقى لدينا هنا (في إسرائيل والضفة الغربية) نحو 400 ألف عربي، وسيظل في غزة 150 ألفاً." واقترح حلاً قاسياً حين قال: "ربما إذا لم نزودهم بكميات كافية من الماء، لن يبقى لديهم خيار آخر لأن حقولهم ستيبس وتصفر. لكن لا يمكننا معرفة ذلك بصورة مسبقة. مَن يعرف؟ ربما تقع حرب أُخرى في انتظارنا تحل لنا المشكلة. لكن هذا سيكون نوعاً من الترف، ويمكن أن يكون حلاً غير منتظر".[13]
يتضح مما سبق أن الوسائل والمقترحات قد تعددت، لكن الهدف بالنسبة إلى الحركة الصهيونية بقي ثابتاً، بينما تُعتبر الأدوات والوسائل مجرد تكتيكات قابلة للتغيير والتفاوض حسب الظروف.
الحرب على الضفة الغربية مستمرة بلا هوادة وفي أكثر من اتجاه
وبطبيعة الحال، استمر العدوان الإسرائيلي اليومي على الضفة الغربية، بل تصاعد بشكل كبير، حتى بدت الضفة كأنها ساحة حرب حقيقية، وخصوصاً في شمالها، كما حدث في لبنان وقطاع غزة.
ولم تقتصر الحرب على الجانبين العسكري والأمني فحسب، بل تعدّتها لتشمل حرباً اقتصادية بشقين: الشق الأول يتمثل في مصادرة المستحقات الضريبية التي تجبيها إسرائيل نيابة عن السلطة الوطنية الفلسطينية والتي تقدر قيمتها بحوالي 2.2 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل 65% من إيرادات السلطة الوطنية الفلسطينية. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة الإسرائيلية لا تقوم بجباية هذه الضرائب من دون مقابل، بل تحتفظ بنسبة 3% من المبالغ المحصّلة، أي ما يقارب 51 مليون دولار سنوياً، بموجب اتفاقية باريس الاقتصادية لعام 1994. وقد تجاوزت قيمة الأموال المحتجزة من قِبل إسرائيل حالياً ملياري دولار. وتُنفَّذ هذه الاقتطاعات تحت ذرائع مختلفة، مثل تعويض عائلات القتلى الإسرائيليين أو اقتطاع الأموال التي تُخصصها السلطة الوطنية الفلسطينية لدعم قطاع غزة وأسر الشهداء والأسرى وضريبة المغادرة على المعابر باتجاه الأردن.[14]
أمّا الشق الثاني من الحرب الاقتصادية، فيتجلى في منع نحو 225 ألف عامل كانوا يعملون في المنشآت الإسرائيلية، وبينهم من كان يعمل في المستعمرات المقامة على أراضي الضفة الغربية. لكن بعد السابع من أكتوبر 2023، تراجع هذا العدد بشكل كبير ليصل إلى 27 ألف عامل فقط، وفقاً لمعطيات جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني.[15] ويعد هذا القطاع شرياناً حيوياً للاقتصاد الفلسطيني، إذ كان يحقق هؤلاء العمال دخلاً مهماً للاقتصاد الفلسطيني يبلغ نحو 400 مليون دولار سنوياً.[16]
علاوةً على ذلك، فإن الحرب على الضفة الغربية تأخذ طابعاً تهويدياً يتسم بمصادرة الأراضي وضمّها، في إطار سياسات ممنهجة تسارعت بوتيرة غير مسبوقة منذ العدوان في السابع من أكتوبر. فقد انتشرت الحواجز والعوائق، ونُصبت الكاميرات، وجرى تغيير شبكات الطرق،[17] بالإضافة إلى تكثيف عمليات مصادرة الأراضي، وهدم المنازل، وإخلاء التجمعات البدوية في مختلف مناطق الضفة الغربية. كما شملت هذه الحرب سيطرة على مصادر المياه وتحكماً غير مسبوق في تدفقها إلى السكان الفلسطينيين في الضفة.[18]
جبهات وساحات معركة جديدة
ولم تقتصر هذه الحرب، التي بدأت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، على قطاع غزة، بل فتحت إسرائيل بالتوازي مع جبهة غزة أكثر من جبهة قريبة وبعيدة؛ فقد شنت إسرائيل حرباً مدمرة على لبنان، استهدفت جنوبه، وضاحيته، وبقاعه، بالإضافة إلى قصف العاصمة بيروت، ونفذت اغتيالات طالت الصف الأول من القيادات العسكرية والسياسية في حزب الله، في مقدمهم الأمين العام حسن نصر الله ورئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين، وعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، فإن القوات الإسرائيلية لا تزال تنتهك بصورة مستمرة اتفاق وقف إطلاق النار، وتتمركز في العديد من القرى الأمامية من جنوب لبنان، بل وتعلن أنها قد تبقى لفترة طويلة في بعض هذه القرى بعد انتهاء فترة الستين يوماً التي حددها الاتفاق لاستكمال انسحابها.
كما امتد القصف الإسرائيلي إلى اليمن وإيران، ومع سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، شن الطيران الحربي الإسرائيلي حملة عسكرية واسعة النطاق استهدفت معظم القدرات العسكرية السورية، كما احتلت القوات الإسرائيلية مناطق جديدة في سورية، بما في ذلك الجانب السوري من جبل الشيخ ومناطق واسعة في محافظتي درعا والقنيطرة، فضلاً عن المنطقة العازلة في الجولان المحتل في انتهاك صارخ لاتفاقية فض الاشتباك الموقعة بينها وبين سورية في عام 1974.
بالعودة إلى السؤال: ما الذي تغير منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حين بدأت إسرائيل عدواناً غير مسبوق على قطاع غزة؟
ذهب الجيش الإسرائيلي لتحقيق الأهداف التي حددها له المستوى السياسي، والتي تضمنت تدمير القدرات العسكرية لحركة "حماس"، ومنع عودتها إلى حكم غزة، واستعادة الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لديها. وقد مُنح الجيش مستوى غير مسبوق من الصلاحيات في استخدام الأسلحة الفتاكة، مما أتاح للضباط بمختلف رتبهم، اتخاذ قرارات تشمل القصف، والقتل، وتدمير الأحياء، وحتى اختيار أنواع الأسلحة المستخدمة. ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في 26 كانون الأول/ ديسمبر 2024، يمثل هذا تغييراً جذرياً في قواعد الاشتباك.[19] ويبدو أن هذا النهج يفسر العدد الكبير للضحايا المدنيين في قطاع غزة.
مع ذلك وفي وقت مبكر، اتضح في إسرائيل أن الأهداف المعلنة للحرب مستحيلة التحقيق، وظهرت شخصيات بارزة تشكك في إمكانية تحقيق هذه الأهداف، مثل رئيسي الوزراء السابقين إيهود باراك، وهو عسكري ورئيس أركان سابق، وإيهود أولمرت، بالإضافة إلى الجنرال إسحق بريك، الذي كتب بانتظام عن استحالة تحقيق أهداف الحرب المعلنة. كما دعا وزير الحرب السابق شاؤول موفاز، الذي شغل أيضاً منصب رئيس الأركان، بعد أقل من شهر على اندلاع الحرب، إلى ضرورة إجراء صفقة تبادل تشمل جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.[20]
في البداية، كانت المطالبات بوقف الحرب والتوجه نحو صفقة تبادل لإنقاذ المختطفين الإسرائيليين خجولة وضعيفة. لكنها أصبحت أكثر صراحة، وارتفع عدد المطالبين بها، بالتدريج، ليس فقط بين السياسيين والعسكريين، بل أيضاً بين الإعلاميين وكتّاب الأعمدة في الصحف الإسرائيلية. كما شهدت الساحة الإسرائيلية حراكاً شعبياً، وخصوصاً من أهالي المختطفين، ظل تأثيره محدوداً ولم يشكل ضغطاً جدياً على الحكومة لإجبارها على اتخاذ خطوات نحو صفقة تبادل، التي كانت مشروطة بإنهاء الحرب والانسحاب من قطاع غزة.[21] في الوقت نفسه، واجهت الحكومة الإسرائيلية تهديدات داخلية من قِبل قوى اليمين المتطرف داخل الائتلاف الحكومي، مثل حزب "عظمة يهودية" بقيادة إيتمار بن غفير، وحزب "الصهيونية الدينية" بقيادة بتسلئيل سموتريتش، واللذين تمسكا بشعار سحق وتدمير "حماس وقوى المقاومة" كسبيل وحيد للإفراج عن الرهائن. ولم تقتصر مواقف هذه القوى على رفض صفقة التبادل، بل ذهبت إلى حد التهديد بفك عقد الائتلاف الحاكم، والدعوة إلى انتخابات مبكرة في حال المضي قدماً نحو إبرام الصفقة. وفي المقابل، ليس لدى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو مصلحة في حل الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة، بسبب الملفات القضائية التي تلاحقه منذ ما قبل الحرب، والمتعلقة بقضايا فساد قد تؤدي إلى سجنه. ناهيك عن أن حل الحكومة يمهد لتشكيل لجان تحقيق رسمية في أحداث السابع من أكتوبر، وهو ما قد يزيد من تحميل نتنياهو مسؤوليات إضافية قد تطيح بمستقبله السياسي.
وبعد انتهاء الحرب التي استمرت نحو خمسة عشر شهراً، أظهرت المعطيات استمرار صمود المقاتلين من مختلف الفصائل، إذ تشير التقديرات الإسرائيلية إلى وجود 20 ألفاً إلى 23 ألف مقاتل نشطين في قطاع غزة. وفي الوقت ذاته، تواصل قوى المقاومة العمل على تجنيد آلاف المقاتلين الجدد الذين ينخرطون في القتال لأول مرة. وعلى الرغم من إعلان الجيش الإسرائيلي تفكيك الإطار العسكري لحركة "حماس"، تُظهر المعطيات أن وتيرة تجنيد المقاتلين الجدد في الحركة تتفوق على وتيرة التحييد والقضاء على قوتها القتالية. هذه الأرقام، التي وصفت بـ"المقلقة"، عُرضت أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست.[22]
من ناحية أُخرى، استمر صمود أهالي غزة، وإصرارهم على البقاء وخوفهم من تكرار تجربة اللجوء في العواصم العربية أو في مخيمات. كما كان لصمود العديد من الفئات المهنية أثر بالغ في مواجهة العدوان ومنع تحقيق أهدافه بالكامل. فالأطباء، على سبيل المثال، استمروا في أداء واجبهم على الرغم من قلة الإمكانيات والاستهداف المباشر لهم ولمرافقهم؛ ففي مستشفى كمال عدوان، استمرت الطواقم الطبية في العمل حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يقتل بعضهم ويُحتجز آخرون، ثم يُحرق المبنى بالكامل. وحدثت وقائع مشابهة في مجمع الشفاء الطبي وغيره من المستشفيات. والأمر ذاته ينطبق على العاملين في الدفاع المدني، الذين واجهوا تحديات هائلة بسبب نقص الإمكانيات والمعدات. كذلك، صمد العاملون في قطاع التعليم على الرغم من الدمار الكبير الذي طال المدارس والمرافق التعليمية، إذ كان لصمودهم دور كبير في مقاومة العدوان الإسرائيلي.
وهكذا، وبعد مرور خمسة عشر شهراً على بدء الحرب، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها المعلنة بشكل حاسم، وذلك على الرغم من سيطرتها الفعلية العسكرية على قطاع غزة من حلال التواجد الدائم على محور صلاح الدين وممر نتساريم، الذي يشطر قطاع غزة إلى نصفين، وتدمير معظم مناطق قطاع غزة، وخصوصاً شماله، في إطار خطة الجنرالات،[23] تمهيداً لإقامة وجود دائم يشمل الجيش والمستوطنين.[24]
تهشم صورة "الجيش الأكثر أخلاقية"
إن المجازر المستمرة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، حتى في مناطق النزوح التي صنّفها على أنها آمنة، وتدميره الممنهج لبنى القطاع التحتية، بما فيها خزانات المياه، كما حصل لدى تفجيره خزان المياه الرئيسي الذي يغذي مدينة رفح في أواخر حزيران/ يونيو 2024، فضحت من جديد مقولة "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، وهو ما أكده تصريح لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق (2002-2005) ووزير الحرب السابق (2013 – 2015) موشيه يعلون، الذي وصف الأعمال التي نفذها الجيش الإسرائيلي في شمال قطاع غزة بأنها ترتقي إلى مستوى جرائم تطهير عرقي. كما أشار إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يعد "الأكثر أخلاقية" كما تدّعي إسرائيل.[25]
وبينما استمرت حملات التضامن العالمية مع الفلسطينيين، والمطالبات بوقف حرب الإبادة وعمليات التطهير العرقي التي تستهدف سكان قطاع غزة، شهدت الملاحقات القضائية الدولية التي تتعرض لها إسرائيل تطوراً بارزاً، في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، عندما صدرت عن محكمة الجنايات الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يؤآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يضاف إلى ذلك الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الذي اعتبر الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة احتلالاً مخالفاً للقانون الدولي.
اتفاق الهدنة - 15 كانون الثاني/ يناير 2025
مع دخول الهدنة حيز التطبيق، تتوالى التحديات التي ترسم آفاق المرحلة المقبلة على المستويات المختلفة لا سيما أن المتغيرات التي عتشتها المنطقة في الأشهر القليلة الماضية شكلّت منعطفاً كبيراً في الشرق الأوسط سوف تتوالى فصوله لسنوات إلى الأمام.
فعلى الصعيد الفلسطيني، سيترتب علينا رصد تطور العلاقات الفلسطينية البينية وجهود المصالحة الوطنية في أعقاب حرب الإبادة والتدمير التي طالت الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتهديدات الاحتلال المتصاعدة في الضفة الغربية ومشاريع الاستيطان والضم التي يُخطط لها، بالإضافة إلى متابعة مسارات إعادة الإعمار وإغاثة السكان في القطاع المنكوب .
أمّا على الصعيد الإسرائيلي، فقد برزت تداعيات اتفاق الهدنة مباشرة بعد إقراره من جانب الحكومة الإسرائيلية، إذ أعلن وزير "الأمن القومي" ورئيس حزب "عوتسماه يهوديت" (قوة يهودية) إيتمار بن غفير، استقالة وزرائه من الحكومة، بينما تزايدت الانتقادات لكيفية إدارة الحكومة لهذه الحرب ونتائجها، إذ صرّح غيورا آيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي ومهندس "خطة الجنرالات"، بأن "الحرب انتهت وحماس انتصرت ومنعت إسرائيل من تحقيق أهدافها"، كما يُتوقع أن يتفاقم الصراع الداخلي بين أقطاب اليمين والمعارضة الإسرائيلية، مع احتدام النقاش حول مصير الحكومة الحالية ونتائج لجان التحقيق المشكّلة لبحث إخفاقات 7 أكتوبر والحرب برمتها.
وختاماً، على الصعيد الإقليمي، يتوجب رصد كيفية تعامل الإدارة الأميركية الجديدة مع الصراع في الشرق الأوسط، ولا سيما أنها لعبت دوراً محورياً في التوصل إلى اتفاق التهدئة، حتى قبل توليها السلطة رسمياً، وما تخطط له بشأن توسيع نطاق "اتفاقيات أبراهام"، وخصوصاً من خلال العمل على التوصل إلى تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. وسيتم تناول المواقف العربية والإقليمية والدولية تجاه مستقبل الحكم في قطاع غزة، ومصير "حل الدولتين". كما يتطلب الأمر متابعة مسارات المحاكم الدولية، مثل محكمتي العدل والجنائية الدوليتين، والاستشارات القانونية المتعلقة بمذكرات الاعتقال التي صدرت خلال الحرب.
* هذه الورقة هي مقدمة كتاب "غزة: حرب الانتقام المسعورة مجموعة أوراق سياسات (2)" الذي صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في شباط/ فبراير 2025.
[1] انظر: "غزة: حرب الانتقام المسعورة، مجموعة أوراق سياسات"، تقديم خالد فراج، الجزء الأول (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024).
[2] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
[3] بيان صحافي رقم 734 صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي.
[4] الأمم المتحدة، "تقرير دولي: مخاطر المجاعة مرتفعة بأنحاء غزة و96% من السكان يواجهون انعداما حادا للأمن الغذائي"، 25/6/2024.
[5] جاري العمل في مؤسسة الدراسات الفلسطينية على إعداد منصة لتوثيق تدمير قطاع التراث والثقافة والفنون في غزة، ومن المتوقع إطلاقها في الربع الأول من عام 2025.
[6] لا يوجد رقم موحد أو قريب من الدقة لعدد الأسرى الذين تم اعتقالهم خلال الحرب على غزة، لكن التقديرات تشير إلى اعتقال أكثر من 12,000 أسيراً وأسيرة، بالإضافة إلى آلاف الأسرى من قطاع غزة الذين تم اعتقالهم منذ السابع من أكتوبر 2023. ووفقاً لبيان الإعلام الحكومي رقم 734 الصادر بتاريخ 21/01/2025، تم تسجيل 360 حالة اعتقال بين الكوادر الصحية، بالإضافة إلى إعدام الاحتلال لثلاثة أطباء داخل السجون، كما شملت الاعتقالات 48 صحافياً ممن تم التعرف على أسمائهم، و26 عنصراً من أفراد الدفاع المدني. وفي ظل الاجتياحات والحملات اليومية التي تنفذها القوات الإسرائيلية في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، وفي قطاع غزة، يصبح من الصعب إعداد لوائح محدثة. ففي غزة تحديداً، تتم الاعتقالات تحت غطاء كثيف من النيران والقصف المدفعي، مما يجعل العمل الميداني للعاملين في المؤسسات الحقوقية لتوثيق حالات الاعتقال أمراً بالغ الصعوبة.
[7] هيئة شؤون الأسرى والمحررين، "هيئة الأسرى ونادي الأسير: استشهاد الأسير الجريح محمد جبر من مخيم الدهيشة"، 19/1/2025.
[8] لمزيد من التفاصيل بهذا الشأن انظر: موقع هيئة شؤون الأسرى، وموقع مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، ونادي الأسير، ومنصة مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي وثّقت أوضاع الأسرى بعد السابع من أكتوبر 2023.
[9] لمزيد من المعلومات عن جرائم الاختفاء القسري، انظر: عبير بكر، "دور المحكمة الإسرائيلية العليا في تفاقم جريمة الاختفاء القسري"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 141 (شتاء 2015)، ص 106.
[10] عزمي بشارة، "الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024)، ص 147.
[11] عوفر أدرات، "ʾيجب أن نمسكهم من رقابهم ونرميهم بعيداًʿ: الجيل المؤسس للدولة أراد تنفيذ الترانسفير في غزة"، نشرة "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4506، 8/12/2024.
[12] ماهر الشريف، "الخلفية الفكرية لمشاريع التطهير العرقي الصهيونية"، ورقة سياسات، موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية الإلكتروني.
[13] عوفر أدرات، مصدر سبق ذكره.
[14] "الحكومة تواصل الضغط للإفراج عن أموال ʾالمقاصةʿ: 7.26 مليار شيقل تقتطعها إسرائيل وترفض إعادتها"، وكالة "وفا"، 11/9/2024.
ويمكن أيضاً مراجعة البيانات الصادرة عن وزارة المالية الفلسطينية.
[15] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، "مؤشرات القوى العاملة في الضفة الغربية دورة (نيسان- حزيران، 2024) الربع الثاني 2024"، 6/10/2024.
[16] غسان الخطيب، "السيطرة الإسرائيلية المتصاعدة على الضفة الغربية بعد أكتوبر 2023"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 141 (شتاء 2025).
[17] خالد فراج، "حرب واحدة على أربع جبهات"، ورقة سياسات، موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية الإلكتروني.
[18] أطلقت مؤسسة الدراسات الفلسطينية منصة خاصة وثّقت من خلالها استهداف الضفة الغربية والقدس خلال الحرب الإسرائيلية على غزة.
[19] “Israel Loosened Its Rules to Bomb Hamas Fighters, Killing Many More Civilians”, The New York Times, 26/12/2024.
[20] "وزير الأمن الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز يدعو إلى إطلاق سراح جميع السجناء الأمنيين في إسرائيل مقابل المختطفين"، i24، 28/10/2023.
[21] لم يرتقِ حراك أهالي المختطفين إلى مستوى لا يمكن احتواؤه أو التعامل معه من قبل الحكومة، إذ كان يعلو الصوت ويزيد التعاطف مع المتظاهرين عندما كانت تعلن المقاومة مقتل أحد الأسرى، أو عند نشرها فيديوهات مصورة لأسرى يناشدون الحكومة الإسرائيلية وذويهم والفعاليات المختلفة العمل من أجل الوصول إلى صفقة تبادل.
[22] "بعد 15 شهراً على الحرب: ما هو عدد ʾالمخربينʿ الذين ما زالوا ناشطين في قطاع غزة؟"، نشرة "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4527، 3/1/2025.
[23] تقوم "خطة الجنرالات" على تهجير ما تبقى من سكان شمال قطاع غزة بهدف تحويله إلى منطقة عسكرية تمهيداً لتطبيقها في عموم القطاع. وقد وُضعت الخطة بمبادرة من رئيس شعبة العمليات الأسبق الجنرال احتياط غيورا آيلاند.
[24] عن خطة الجنرالات انظر: حسن شاهين، "خطة الجنرالات: من توسعة غزة إلى عودة الاحتلال"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 141 (شتاء 2025)، ص 86.
[25] "تقرير: يعلون يصرّ على تصريحاته التي أكد من خلالها أن الجيش الإسرائيلي يقوم بتطهير عرقي في قطاع غزة"، نشرة "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4501، 2/12/2024.
1