تتجه كل الأنظار إلى حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وما يرافقها من مجازر ودمار هائل وحصار وانعدام الخدمات الصحية والغذائية الأساسية، غير أن الأضرار الأطول أجلاً، والناجمة عن هذه الحرب، والتي ستخلف آثاراً اقتصادية واجتماعية ونفسية سلبية وعميقة، لم يسلَّط الضوء عليها بعد، ولم تستحوذ إلاّ على قليل من اهتمامات الإعلاميين والسياسيين والباحثين في المؤسسات الأكاديمية والبحثية، على الرغم من أن هذه الآثار خطِرة وواسعة النطاق، وستطال معظم فئات الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، ويُتوقَّع أن تدوم لفترات زمنية طويلة بعد انتهاء الحرب. وفي هذا السياق، ستركز هذه الورقة على آثار الحرب الجارية في قطاع العمالة الفلسطيني، وعلى الآثار الاقتصادية الناجمة عن تعطل مئات الآلاف من العمال والمستخدمين عن العمل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي المنشآت الإسرائيلية.
بلغ عدد العاملين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة نحو 1.16 مليون عامل، منهم 868,000 عامل من الضفة الغربية، ونحو 292,000 عامل من قطاع غزة. ويُعتبر القطاع الحكومي المشغّل الأساسي لهؤلاء العمال والمستخدمين، إذ يوظف نحو 205,000 عامل، بواقع 121,000 في الضفة الغربية، ونحو 84,000 في قطاع غزة. وقد أدت القيود التي يفرضها الاحتلال على الاقتصاد الفلسطيني، مع تبعيته [الاقتصاد الفلسطيني] للاقتصاد الإسرائيلي طوال السنوات الماضية إلى ضعف إمكان استيعاب العمالة الفلسطينية في أسواق العمل المحلية، وإلى الاعتماد المتزايد على أسواق العمل الإسرائيلية، والتي أصبحت تشكّل مصدراً أساسياً لمداخيل آلاف الأُسر الفلسطينية خلال السنوات القليلة الماضية. وقد شكّل ذلك إحدى الأدوات الأساسية لتعزيز تبعية الاقتصاد الوطني الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، وفاقم من انكشافه أمام سياسات العقاب الجماعي التي يتّبعها الاحتلال باستمرار.
وتشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى ارتفاع عدد العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين يعملون في المنشآت الإسرائيلية، في الداخل الإسرائيلي والمستعمرات أيضاً، من نحو 51,000 عامل سنة 2013 إلى ما يزيد على 178,000 عامل في الربع الثالث من سنة 2023، أي عشية الحرب على قطاع غزة، بواقع 153,000 عامل من الضفة الغربية، و25,000 عامل من قطاع غزة، وهو ما يشكّل نحو 20% من إجمالي القوة العاملة الفلسطينية، ومعظمهم يعمل في قطاع البناء والخدمات والزراعة.[1]
بموازاة ذلك، تشير هذه الإحصاءات إلى معاناة القوى العاملة الفلسطينية جرّاء نسب مرتفعة من البطالة، وخصوصاً في قطاع غزة، عشية الحرب، إذ بلغ معدل البطالة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بين المشاركين في القوى العاملة (15 سنة فأكثر)، نحو 24%. وكان التفاوت في معدل البطالة بين الضفة الغربية والقطاع كبيراً، إذ بلغ 45% في القطاع، في مقابل 13% في الضفة الغربية. ويلاحَظ أن معدلات البطالة تشكّل التحدي الأكبر أمام الشباب الفلسطيني، إذ بلغت بين الذكور منهم 32%، بينما ترتفع بين الإناث إلى 59%، وكانت هذه النسب هي الأعلى في قطاع غزة مقارنة مع الضفة الغربية، إذ بلغت 75% و30% على التوالي. ولعل أعلى معدلاتها بين الشباب في عمر الـ18-29 عاماً سُجلت بين الخريجين منهم، من حملة الدبلوم المتوسط فأعلى، فبلغت 48%، وبفارق واضح بين الشباب الذكور والإناث؛ 34% للذكور و61% للإناث.[2]
وبعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة "حماس" وبعض فصائل المقاومة في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ومنذ اليوم الأول للحرب، قامت إسرائيل باستهداف المنشآت الاقتصادية والخدماتية المدنية كافة، وفي كل مناطق القطاع، وهو ما أدى إلى التوقف عن العمل وتعطيل كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وفي الوقت نفسه، قامت السلطات الإسرائيلية بإلغاء كل تصاريح العمل الممنوحة للعمال الفلسطينيين العاملين لديها من قطاع غزة ومن الضفة الغربية، كما شنت القوات والشرطة هجمات متتالية على أماكن سكنهم في مناطق الـ48، واعتقلت آلاف عمال القطاع، واحتجزتهم عدة أسابيع في أوضاع قاسية وغير إنسانية، في مراكز اعتقال جماعية. كما قامت الشرطة الإسرائيلية باحتجاز ما يقارب 14,000 عامل فلسطيني من القطاع، وقامت بطردهم وإلقائهم بطرق وحشية على الحواجز الإسرائيلية مع الضفة الغربية، بعد التنكيل بهم وسرقة أمتعتهم ومقتنياتهم. والجدير بالذكر أن معظم هؤلاء العمال وصلوا إلى المدن والبلدات الفلسطينية المتعددة في الضفة الغربية وهم لا يحملون معهم إلاّ القليل من أمتعتهم الشخصية وبعض النقود، فاستقبلتهم المؤسسات الفلسطينية، وتحديداً مكاتب المحافظات والمؤسسات الأهلية وبعض المدارس والفنادق وشركات القطاع الخاص.
إغلاق الأسواق الإسرائيلية... صدمة اقتصادية بالغة الخطورة
أدى إغلاق سوق العمل الإسرائيلي بوجه العمالة الفلسطينية إلى إحداث صدمة اقتصادية بالغة الخطورة مست أبعادها السلبية الجوانب الاقتصادية كافة؛ فقد كان هؤلاء العمال يحققون دخلاً للاقتصاد الفلسطيني يبلغ نحو 3 مليارات دولار سنوياً، أو ما يقارب 15% من الدخل القومي المتاح، الأمر الذي أبقى مستويات البطالة في الضفة الغربية، بحسب إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لسنة 2022، دون 20%، بينما بقي مستواها في غزة نحو 45%. وقد كشف تقرير لمنظمة العمل الدولية أن الحرب التي تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر على غزة أدت إلى آثار كارثية فيما يتعلق بسوق العمل، ويوضح هذا التقرير أن للأزمة الإنسانية في غزة آثاراً خطِرة في سوق العمل وآفاق التوظيف وسبل العيش في القطاع، وفي جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذا سبّب أزمة اجتماعية واقتصادية أدت إلى أضرار جسيمة في الوظائف والشركات، وستكون تداعياتها ملموسة لسنوات عديدة قادمة.[3]
وهذا يعني، بحسب بعض التقديرات، أنه من دون إيجاد فرص عمل لهؤلاء العمال في المدى القصير، فإن نسبة البطالة سترتفع إلى ما يزيد على 30% في الضفة الغربية، وربما إلى 90% في القطاع، نظراً إلى توقف معظم هذه القطاعات عن العمل في غزة،[4] وتراجعها بصورة كبيرة في الضفة الغربية، وخصوصاً قطاعات كالزراعة، والبناء، والتجارة، والفنادق، والمطاعم، وذلك بفعل القيود على التنقل والإجراءات العدوانية التي يفرضها الجيش الإسرائيلي أو المستوطنون.[5]
وبناء على ما يجري ميدانياً، والأوضاع الصعبة التي تعيشها الأراضي الفلسطينية حالياً، فمن غير المتوقع عودة هؤلاء العمال إلى العمل في إسرائيل، نظراً إلى المخاطر والمضايقات التي تواجههم ويتعرضون لها في أثناء تنقلاتهم وعملهم في المنشآت الإسرائيلية، بالإضافة إلى عدم استعداد بعض القطاعات المشغلة الإسرائيلية لإعادة توظيف أيدٍ عاملة "معادية"، على الرغم من حاجتها إلى الأيدي العاملة الفلسطينية، إلاّ في بعض الحالات الاستثنائية، وفي بعض القطاعات؛ كالزراعة، والبناء، والخدمات، والقطاعات التي تتواجد في مناطق صناعية استيطانية على أطراف المدن الكبرى؛ كمنطقة عطروت بالقرب من القدس، ومستوطنة موديعين عيليت بالقرب من غرب رام الله، وغيرها من المناطق الصناعية الاستيطانية، إذ مُنح بعض العمال الفلسطينيين العاملين في هذه المناطق تصاريح عمل موقتة، ويتم تشغيلهم في أوضاع تشبه معسكرات العمل في السجون.
اتساع دائرة البطالة في ظل انهيار الاقتصاد الفلسطيني
يأتي إغلاق الأسواق الإسرائيلية أمام العمال الفلسطينيين منذ بداية الحرب، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، مترافقاً مع سلسلة من الإجراءات العقابية الجماعية التي أدت إلى تدمير الاقتصاد الفلسطيني الهش أصلاً، سواء أكان ذلك عن طريق العدوان العسكري على قطاع غزة، أم عن طريق تقطيع أوصال الضفة الغربية، وفرض حصار على السكان وآلاف العمال في مختلف المدن والمحافظات التي تحولت إلى معازل وجزر منفصلة بعضها عن بعض، وهو ما أدى إلى تراجع كل المؤشرات الاقتصادية، واتساع دائرة البطالة والفقر.
وتشير بعض الحسابات التقريبية إلى إمكان ارتفاع خسائر الناتج المحلي الإجمالي في نهاية الشهر الثالث من هذه الحرب إلى 12% من إجمالي الناتج المحلي، أي ما يعادل 2.5 مليار دولار.[6] وتُعزى هذه الخسارة إلى مجمل الإجراءات القمعية والعقابية الجماعية التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين في القطاع والضفة. إذاً، فانعدام الأمان الفردي أو العائلي لا يقتصر على سكان غزة فحسب، بل أيضاً يشمل قطاعات واسعة من سكان الضفة الغربية، الذين فرضت عليهم سلطات الاحتلال والمستوطنون إجراءات قمعية وقيوداً على الحركة، أثرت سلباً في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
فهذه القيود المفروضة على تنقُّل الفلسطينيين في الضفة الغربية، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، أصبحت تشكّل تهديداً خطِراً لأمنهم، ومعيقاً حقيقياً لتنقُل ما يزيد على 67,000 عامل فلسطيني لديهم وظائف في محافظات غير أماكن إقامتهم، وبالتالي هم مضطرون إلى المرور عبر عشرات الحواجز العسكرية التي زرعتها السلطات الإسرائيلية على الطرقات الرئيسية الواصلة بين محافظات الضفة الغربية والمدن والقرى المحيطة بها. هذا بالإضافة إلى عشرات التجمعات التي ينشئها المستوطنون للاعتداء على سيارات الفلسطينيين ومركباتهم في أثناء مرورهم، وهو ما عطل التنقل بصورة شبه تامة، ومنع وصول آلاف العمال والموظفين والطلبة إلى أماكن عملهم.
كما أدى هذا إلى تعطُّل العمل في مئات المنشآت الإنتاجية الصناعية والزراعية، وفي عدة مؤسسات حكومية، وصولاً إلى إغلاق عدة جامعات، ولجوئها إلى التدريس عن بعد (إلكترونياً)، وهو ما ساهم، إجمالاً، في فقدان آلاف العمال فرص عملهم.
وتشير بعض الدراسات[7] إلى أن هناك تداعيات كبيرة للقيود المفروضة على الحركة، وخصوصاً على فرص التوظيف والأجور؛ فعلى سبيل المثال، تشير إحدى هذه الدراسات إلى أن وجود مركز تفتيش على بعد دقيقة واحدة من منطقة محلية يقلل من أجر سكانها بـ5.2 نقطة مئوية في الساعة، ويحد من إمكان إيجاد فرصة عمل بـ0.5 نقطة مئوية. وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى فقدان 61% من فرص العمل في قطاع غزة، أي ما يعادل 182,000 وظيفة في نهاية الشهر الأول من الحرب، بينما فقدت الضفة الغربية نسبة 24% من فرص العمل، أي ما يعادل 208,000 وظيفة. وقد فقد القطاع في نهاية الشهر الثاني ما يقارب 95% من فرص العمل، بينما يُتوقع أن تفقد الضفة الغربية ما يقارب 60% من فرص العمل.
آثار الحرب في الاقتصاد الفلسطيني: من التبعية إلى الانهيار[8]
إن هذا التوقف المفاجئ عن العمل للعمال والمستخدمين في قطاع غزة كافة، ولنسبة عالية من القوة العاملة في الضفة الغربية، ساهم في تعطيل عجلة الاقتصاد، وعزز الشعور بعدم الاستقرار والأمان الاقتصادي، وهو ما أدى، بحسب تقديرات معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني "ماس"، إلى انخفاض مستويات الإنفاق الاستهلاكي بنحو 16% لسنة 2024 مقارنة بالمستويات السابقة إذا كان التوقف كلياً وطويلاً، وهذا سيؤدي إلى انخفاض في الواردات يصل إلى 10%.
وفيما يتعلق بالتأثيرات الممكنة في الإيرادات العامة، يُتوقع أولاً أن تنخفض ضريبة الدخل على أجور العمال في إسرائيل إلى صفر في حال استمرار الحرب لثلاثة أشهر أو أكثر، وهي الضريبة التي كانت تحولها الحكومة الإسرائيلية، بموجب اتفاق باريس، إلى السلطة الوطنية الفلسطينية على أساس ربع سنوي، وبلغت في سنة 2022 ما يقارب 1.69% من إيرادات المقاصة، أي ما يعادل نحو 188.2 مليون شيكل (نحو 51 مليون دولار). وتشكُل أموال المقاصة الإجمالية نحو 70% من إيرادات السلطة الفلسطينية، أي ما يعادل تقريباً 2.2 مليار دولار سنوياً.
وقد قرر مجلس الوزراء السياسي والأمني الإسرائيلي، بعد شهر من إعلان الحرب على غزة، خصم الأموال المخصصة لقطاع غزة من المقاصة الفلسطينية، بالإضافة إلى الأموال المدفوعة إلى المعتقلين وعائلاتهم. وكعادتها، تستخدم إسرائيل هذه الأموال كورقة ضغط على السلطة الفلسطينية، وتحجب عنها هذه الأموال جزئياً أو كلياً، مسببة بذلك أزمة اقتصادية خانقة للسلطة الفلسطينية، لذلك رفضت السلطة هذا القرار، وامتنعت من تسلم أموال المقاصة منقوصة، فهي للشعب الفلسطيني، ولا يحق لإسرائيل أن تحتجزها، بحسب اتفاقية باريس الاقتصادية، وقد أدى ذلك إلى حرمان الخزينة الفلسطينية من أهم مواردها، وأصبحت السلطة تعاني شبه إفلاس، وعجزت عن دفع رواتب موظفيها طوال الشهرين الماضيين، واضطرت إلى الاقتراض من البنوك الفلسطينية كي تدفع إليهم جزءاً من رواتبهم.
ونظراً إلى تضاعف نسب البطالة بسبب تسريح العمال من أسواق العمل الإسرائيلية، وتسريح آلاف العمال والمستخدمين من المنشآت الاقتصادية الفلسطينية، بسبب الركود الاقتصادي في الضفة الغربية، بالإضافة إلى عدم تقاضي الموظفين الحكوميين رواتبهم، فإنه يُتوقع انخفاض الإيرادات العامة بنسبة 7% إلى 14% بسبب انخفاض إجمالي الواردات السلعية بنحو 10% إلى 20%. كما يُتوقع أن تتراجع الإيرادات العامة هذه بنسبة 0.9% إلى 1.3% نظراً إلى انخفاض ضريبة القيمة المضافة المحلية، وتراجُع الإنفاق الأُسري الاستهلاكي بنسبة 10% إلى 15% خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب.
ويضاف إلى ما تقدم، تراجع التدفقات التجارية وتدفقات رأس المال، والاستثمارات المستقبلية، وتدنّي الإنتاجية، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وخصوصاً تكاليف النقل. ولا شك في أن هذه التداعيات الاقتصادية ستتفاقم في ظل استمرار الحرب وكل ما ترافق معها من إجراءات قمعية. كما يُتوقع أن تتراجع القوة الشرائية للأسر الفلسطينية، وكذلك الطلب على السلع الاستهلاكية، وصولاً إلى تراجع السيولة النقدية في السوق، وانخفاض الأجور المحلية، وهي تداعيات بمجملها خطِرة، وستكون لها تأثيرات اقتصادية سلبية طويلة المدى، وستحتاج إلى سنوات طويلة لمعالجتها بعد توقف طبول الحرب.
وفي هذا السياق، تشير بعض التقديرات[9] المتفائلة إلى أنه من المرجح أن تؤدي الحرب إلى تراجع مستوى التنمية البشرية، عموماً، في الأراضي الفلسطينية إلى ما بين 11 عاماً و16 عاماً إلى الوراء، وذلك بفعل تراجع التحصيل العلمي، وانخفاض العمل المتوقع، وتدنّي نصيب الفرد من الدخل، ومستويات المعيشة ونقص التغذية، ونسبة الفقر، وهي المعايير الأساسية المعتمدة لقياس مستوى التنمية البشرية. ونحن نتوقع أن تكون الآثار التنموية لهذه الحرب أسوأ كثيراً من هذه التقديرات، وهذا يتوقف أساساً على المدة التي ستستغرقها الحرب، ونتائجها السياسية، وحجم الخسائر المادية والبشرية التي ستتسبب بها، وحجم المساعدات لإعادة الإعمار وكيفية إدارتها، وهي بمجملها عوامل مستقبلية من الصعب التنبؤ بها بدقة ما دامت الحرب لم تنتهِ بعد، إلاّ إن الوقائع على الأرض تشير إلى أن هذه الحرب هي حرب إبادة شاملة وغير مسبوقة، والنتائج الاقتصادية والاجتماعية ستكون وخيمة.
الفقر يجتاح كل سكان قطاع غزة وثلث سكان الضفة الغربية
إن توقف القوة العاملة كافة عن العمل في قطاع غزة تقريباً، بعد أن أصبحت منطقة شمال القطاع غير صالحة للسكن، ونزوح ما يقارب 1.9 مليون نسمة من بيوتهم وأماكن سكنهم في اتجاه وسط القطاع وجنوبه المكتظ أصلاً، ربما حوّل القطاع برمته إلى مخيم للاجئين مترامي الأطراف، يعيش فيه مجتمع منكوب، أصبحت تفتقد معظم أُسره إلى حاجاتها الأساسية، وتحول كل سكانه إلى فقراء.[10]
فالوضع الاقتصادي للأسر الغزّية كان مزرياً أصلاً قبل الحرب الراهنة، إذ، بحسب بيانات وزارة التنمية الاجتماعية في القطاع، كان يعاني، سنة 2022، نحو 1,422,955 مواطناً جرّاء الفقر المتعدد الأبعاد،[11] أي ما يعادل 61% من إجمالي سكان القطاع، وكان يعاني ثلثهم جرّاء الفقر المدقع، وبالتالي، فقد كان يستفيد من برنامج التحويلات النقدية، التي تقدمها الوزارة إليهم، والمعروف باسم "شيك الشؤون"، نحو 21% من إجمالي سكان قطاع غزة لأنهم غير قادرين على توفير حاجاتهم الأساسية، وكان مدرجاً على لائحة الانتظار ما يزيد على 17,000 أسرة للاستفادة من هذا البرنامج، لكنهم لم يستفيدوا منه بسبب عدم توفر التمويل اللازم بحسب وزارة التنمية الاجتماعية.[12] ويعتمد المستفيدون من هذا البرنامج على المخصصات المالية المحدودة في سد حاجاتهم الحياتية الأساسية، إذ تتراوح قيمة المبلغ الذي تحصل عليه الأسرة بين 75 دولاراً و180 دولاراً شهرياً، وتبلغ قيمة هذه المساعدة السنوية الإجمالية نحو 128 مليون دولار سنوياً.
ومنذ بداية الحرب على غزة، توقفت كل هذه المساعدات، وبالتالي، فقد هؤلاء أحد مصادر دخلهم الأساسية، كما فقدوا أي إمكان لتوفير فرص عمل موقتة أو دائمة، فاتسعت دائرة الفقر بسرعة لتشمل تقريباً كل سكان القطاع، في ظل حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على المدنيين والمنشآت الاقتصادية من دون تمييز. ولذلك، تتوقع بعض التقديرات أن نسبة الفقر ستصل إلى ما يزيد على 96% من السكان في نهاية الشهر الثالث من الحرب، كما تتوقع أن معظمهم أصبح يعاني جرّاء الفقر المدقع في ظل الحالة المعيشية الكارثية التي ولدتها الحرب، وفقدانهم أبسط مقومات الحياة، من مأكل ومسكن وغير ذلك خلال نزوحهم في العراء. ومن المتوقع أن يؤدي ارتفاع معدلات الفقر وتوقف المساعدات إلى تداعيات شديدة على الأُسر التي تعيلها نساء؛ فمنذ بداية الحرب، انضم إلى هذه الفئة من الأُسر ما يزيد على 2784 أسرة في غزة، نتيجة مقتل الرجال الذين كانوا يعيلونها، بينما فقدت 23,181 أسرة تعيلها نساء منازلها، وفقد ما يزيد عن 10,000 طفل أباه. ويمكننا تخيُّل الأوضاع الصعبة التي تعيشها هذه العائلات في حال وجود أطفال تعيلهم الزوجة وفي ظل انعدام مصادر دخل بديلة للأسرة.[13]
في المقابل، يواجه نحو 3.2 مليون فلسطيني في الضفة الغربية والقدس الشرقية تهديدات بالإبادة والتهجير لا تقل خطورة عما يواجهه سكان غزة، إذ تسعى إسرائيل جاهدة، بالوسائل العسكرية والعنف الاستعماري، إلى جعل كل المناطق الفلسطينية غير قابلة للعيش، وليس فقط القطاع، وذلك في إطار مواجهتها لما تعتبره "خطراً وجودياً". وفي هذا السياق، يُتوقع أن تتضاعف نسبة الفقر في الضفة الغربية، والتي كانت تبلغ نحو 14%، وخصوصاً بعد إغلاق سوق العمل الإسرائيلي أمام العمالة الفلسطينية، ومضاعفة عدد العاطلين عن العمل وتراجُع مؤشرات الاقتصاد الكلي فيها.
خاتمة
على الرغم من الآثار الاقتصادية الخطِرة التي يعاني جرّاءها الفلسطينيون بعد شهرين ونصف الشهر من بدء الحرب الشاملة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، وما نتج منها من تدمير اقتصادي ممنهج، وإيقاف أعداد ضخمة غير مسبوقة من العمال والمستخدمين عن العمل، سواء في أسواق العمل الإسرائيلية أو الفلسطينية، والدفع بمئات آلاف الأُسر الفلسطينية إلى دائرة الفقر المدقع، فإنه لا توجد أي جهة رسمية أو غير رسمية، حتى الآن، تعمل على مساندة هؤلاء المستخدمين، كما لا توجد أي خطة وطنية لمواجهة التحديات الاقتصادية. وقد أصبح واضحاً أن هذه التداعيات الاقتصادية التي ولدتها الحرب ستستمر في المدى القصير والمتوسط بعد انتهائها، ولن يكون في الإمكان تداركها من دون مضاعفة المساعدات الخارجية لإعادة الإعمار، ووضع سياسات إنقاذ وإغاثة وطنية يشارك فيها كل شركاء التنمية؛ من مؤسسات حكومية وغير حكومية وقطاع خاص، ومن دون اللجوء إلى جملة من الإجراءات لتوفير شبكة حماية تكافلية واسعة تتضمن إعانات نقدية عاجلة، وبدء إنشاء أسس لاقتصاد مقاوم وأقل تبعية، وبرامج توظيف لتوفير فرص عمل محلية بديلة طارئة في القطاعات الاقتصادية المتعددة لمكافحة البطالة والفقر وإعادة ضخ الحياة في الاقتصاد الفلسطيني قدر الإمكان.
المراجع
- "حرب غزة: التداعيات الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة على دولة فلسطين". برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، 5/11/2023.
- "بيان يستعرض أوضاع الشباب في المجتمع الفلسطيني بمناسبة اليوم العالمي للشباب". رام الله: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 12/8/2023.
- "النتائج الأساسية لمسح القوى العاملة. دورة الربع الثالث (تموز – أيلول 2023)". رام الله: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
- "الفقر في فلسطين: مؤشر صعود بلا توقف". المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، 2022.
- "ملخص اقتصادي حول الحرب على غزة". رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس). العدد 4، 6/11/2023.شض
- "ملخص اقتصادي حول الحرب على غزة". رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس). العدد 6، 26/11/2023.
- International Labour Organization (ILO). “Impacts of the Israeli-Hamas on the labour market and livelihoods in the Occupied Palestinian Territory” (November 2023).
- Cali, Massimiliano and Julia Oliver. “West Bank check –points damage economy, illustrate high cost of trade barriers”. Published on The Trade Post, World Bank Blogs, 18 July 2013.
- Palestine Economic Policy Research Institute – MAS. “Preliminary Findings on the Impacts of the Cessation of Palestinian Labor in
- Israel on Key Palestinian Macroeconomic Indicators”. Gaza War Economy Brief, no. 5 (November 2023).
- UN Women, “Facts and Figures: Women and girls during the war in Gaza”. 22 December 2023.
[1] "النتائج الأساسية لمسح القوى العاملة: دورة الربع الثالث (تموز–أيلول 2023)"، رام الله: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
[2] "بيان يستعرض أوضاع الشباب في المجتمع الفلسطيني بمناسبة اليوم العالمي للشباب"، رام الله: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 12/8/2023.
[3] International Labour Organization (ILO), “Impact of the Israel-Hamas conflict on the labour market and livelihoods in the Occupied Palestinian Territory” (November 2023).
[4] "ملخص اقتصادي حول الحرب على غزة"، رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)، العدد 4، 6/11/2023.
[5] لا شك في أن أكثر الفئات تضرراً من هذه الإجراءات الاستعمارية الإسرائيلية ستكون فئة الشباب وفئة النساء، وتحديداً خريجي الجامعات، إذ يلاحَظ أن نسب البطالة في الأراضي الفلسطينية هي أكثر ارتفاعاً أصلاً بين خريجي الجامعات من الشبان والشابات، والتي تبلغ نحو 74% في قطاع غزة، ونحو 29% في الضفة الغربية. وكذلك ترتفع بين النساء، إذ تبلغ نسبة البطالة بينهن 66.2% في قطاع غزة، في مقابل 29% في الضفة الغربية.
[6] "ملخص اقتصادي حول الحرب على غزة"، مصدر سبق ذكره.
[7] Massimiliano Cali and Julia Oliver, “West Bank check –points damage economy, illustrate high cost of trade barriers”, Published on The Trade Post, World Bank Blogs, 18/7/2013.
[8] لمزيد من التفاصيل بشأن الآثار الاقتصادية لتسريح العمال الفلسطينيين من المنشآت الإسرائيلية في مناطق الـ48 ومن المنشآت الاقتصادية الفلسطينية في الضفة الغربية انظر تقرير معهد ماس:
Palestine Economic Policy Research Institute - MAS, “Preliminary Findings on the Impacts of the Cessation of Palestinian Labor in Israel on Key Palestinian Macroeconomic Indicators”, Gaza War Economy Brief, no. 5 (November 2023).
[9] "حرب غزة: الآثار الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة على دولة فلسطين"، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، 5/11/2023.
[10] "ملخص اقتصادي حول الحرب على غزة"، رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)، العدد 6، 26/11/2023.
[11] طبّق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني مفهوم الفقر المتعدد الأبعاد سنة 2020 ليشمل نطاقاً أوسع "متعدد الأبعاد"، وهو مفهوم يعزز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأُسر الفقيرة، إذ يتألف هذا المفهوم من الجوانب النقدية وغير النقدية، ويفحص أوجه الحرمان المادية والاجتماعية التي يعاني جرّاءها كل مواطن، وتحديداً مؤشرات تتعلق بمستويات المعيشة والدخل والتعليم والصحة.
[12] "الفقر في فلسطين: مؤشر صعود بلا توقف"، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، 2022.
[13] UN Women, “Facts and Figures: Women and girls during the war in Gaza”, 22 December 2023.
1