تحاول هذه الورقة أن تستعرض جانباً من إجراءات دولة الاحتلال المتعلقة بالسيطرة على الأرض الفلسطينية في الأغوار الفلسطينية ومسافر يطا في إطار الأثر المباشر لظاهرة الاستيطان الزراعي والرعوي والتكامل الوظيفي بين ما تفعله المؤسسة الرسمية وما يكمله المستعمرون من وقائع على الأرض، باعتبار أن هذه الظاهرة صُممت خصيصاً من أجل تنفيذ جملة من الأهداف تتمثل في ربط المستعمرات من خلال السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي، وما ينطوي على خلق الجيوب الاستيطانية العميقة من عزل للبلدات والتجمعات الفلسطينية بعضها عن بعض وعن المصادر الطبيعية، وما يؤدي إليه كل ذلك من تهجير للفلسطينيين والتضييق عليهم وضرب الديموغرافيا، وتحديداً في الأغوار.
وبالنظر إلى طبيعة المنطقتين الجغرافيتين والخصوصية الشديدة لكل منطقة منها، فقد أمعنت دولة الاحتلال في استهداف كل منطقة منها بإجراءات قد تبدو من الخارج مختلفة، لكنها من ناحية الجوهر تظهر شديدة التشابه، وتصب في الإطار ذاته؛ إطار فرض البيئة القهرية الطاردة والترحيل القسري، وإذ يبدو لافتاً أن هذه المنهجية اتسمت بالبطء منذ ظهور ظاهرة الاستيطان الرعوي مطلع سبعينيات القرن الماضي،[1] واتضاح معالمها مع بداية الألفية الجديدة، ونضوجها في عام 2017، وانفجارها هذه الأيام، كوسيلة ينادي بها كبار المشرعين في دولة الاحتلال كأداة سهلة للسيطرة على مساحات شاسعة من الأرض من دون الحاجة إلى استصدار أوامر عسكرية أو قضائية محددة بمساحات تحددها إحداثيات خرائط الأوامر العسكرية.[2]
الاستيطان الرعوي هو "أحد أشكال الاستيطان التي ابتكرها الاحتلال الصهيوني لاستعمار أرض فلسطين والسيطرة عليها وعلى كل ما تحويه من خيرات فوق الأرض وتحتها، وخصوصاً مناطق الأغوار، يقوم أساساً على السيطرة على الأرض والتمدد فوقها، بذريعة إيجاد مراعي يرعى فيها قطعان ماشيته". وتعتمد الجمعيات الاستيطانية على تصنيف "المزارع الاستيطانية" لضمان الاستيلاء السريع على مساحات كبيرة من الأرض. يقود السكرتير العام لحركة "أمانا" الاستيطانية زئيف حيفر مشروعاً لشرعنة المزارع الاستيطانية، ويمارس ضغوطاً على سلطات الاحتلال من أجل زيادة عددها، وقد أكد لوسائل الإعلام أهمية هذه المزارع بقوله: "المزارع الاستيطانية الرعوية وسيلة أكثر نجاعة من البؤر التي تعتمد البناء الاستيطاني التقليدي، فبعد مضي 50 سنة استطعنا السيطرة على 100 كيلومتر مربع من مساحة الضفة الغربية، بينما سيطرت المزارع الرعوية الاستيطانية في فترة قصيرة على أكثر من ضعف هذه المساحة."[3]
وتشير آخر بيانات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أن 71% من هذه البؤر تم إنشاؤها بُعيد عام 2015، وترصد الهيئة أن أكثر من 78% من هذه البؤر أقيمت في الجزء الشرقي من الضفة الغربية، ابتداءً من الأغوار الشمالية شمالاً، مروراً بشرقي رام الله والقدس، وانتهاءً بجنوبي محافظة الخليل في الجنوب، أو في المناطق التي تطل على هذه المناطق كالجزء الشرقي من محافظة نابلس، وتشكل ممراً إليها بالمفهوم العملياتي من السيطرة.[4]
في المحصلة لا يمكن فصل ما يحدث في الأغوار الفلسطينية عما يحدث أساساً في مسافر يطا، بالنظر إلى الامتداد الجغرافي للمنطقتين. وعلى وجه الدقة، تشكل منطقة مسافر يطا، امتداداً جغرافياً للسفوح الشرقية التي تبدأ بالأغوار الشمالية وتنتهي عند أقصى جنوب الضفة الغربية، وهو الشريط الذي تستهدفه دولة الاحتلال منذ اللحظة الأولى من الاحتلال وفق ما أعلنته من خطط،[5] وهي اثنتان من أهم المخططات المركزية في مسيرة المشروع الاستيطاني الاستعماري بعيد الاحتلال في عام 1967، والذي كُشف النقاب عنه في العام ذاته، والذي يعود إلى رئيس الوزراء بالإنابة والوزير في حكومة الاحتلال الثالثة يغآل ألون، الذي قدم مقترحاً يقضي بتفريغ السفوح الشرقية للضفة الغربية، وضم مدينة القدس والسيطرة على المصادر الطبيعية الفلسطينية. ونستنتج من عملية المتابعة للسلوك الاستيطاني الاحتلالي في العقود الماضية، أن دولة الاحتلال لم تحد قيد أنملة عن تنفيذ هذا المخطط تحديداً، إلى جانب مخططات بارزة أُخرى، على رأسها مخطط متتياهو دروبلس 1978 (رئيس شعبة الاستيطان الأسبق)، الذي اقترح إلى جانب ضم السفوح الشرقية تعزيز التكتلات الاستيطانية، وبقي هذا المخطط ثابتاً، وينفذ بوتيرة سريعة متدحرجة. فقد بدأت بعملية عزل الأغوار وتفريغها، مروراً بتسليط المستعمرين عبر البؤر الاستعمارية الرعوية والزراعية، وانتهاءً بفرض الإرهاب من أجل إنجاز عملية الترحيل.[6]
واستناداً إلى حقيقة تعرض المنطقتين لكل أصناف الإجراءات الاحتلالية التي ترمي إلى فرض بيئة قهرية طاردة وبالتالي تهجير السكان، باعتبار أن الأغوار الفلسطينية تقع على امتداد الشريط الشرقي للضفة الغربية (انظر الخريطة الجانبية)، من أقصى شمال الضفة الغربية، حتى جنوبه، مشكّلة بذلك الحدود الشرقية للضفة الغربية مع الأردن، ومع أن سلطات الاحتلال تتذرع بذرائع أمنية لإبقاء سيطرتها على هذه المنطقة، إلاّ إن العامل الرئيسي الذي يدفعها إلى ذلك هو في الواقع ما تجنيه من فوائد اقتصادية منها، بلغت 650 مليون دولار في سنة 2012، فضلاً عن كونها مصدراً مهماً للحصول على المياه.[7]
تكتسب مسافر يطا، التي تتموضع إلى الجنوب من الضفة الغربية، أهمية استراتيجية سنعرض أبرز جوانبها في هذه الورقة. يجمع فقهاء القانون الدولي على أن التهجير القسري (forcible transfer) يُصنف كجريمة حرب، إذ يشمل تهجير أو إبعاد (deportation) شخص أو أكثر إلى دولة أُخرى أو مكان آخر. وعلى الرغم من ذلك يرى بعضهم أن هذا الانتهاك الجسيم لقواعد القانون الدولي الإنساني يمكن أن يُعتبر أيضاً جريمة ضد الإنسانية، نظراً إلى أنه يتضمن غالباً تدميراً أو مصادرة واسعة للأملاك لا تبرره الضرورة العسكرية.[8] وقد أفرد القانون الدولي الإنساني نصوصاً واضحة تحظر النقل الجبري للأشخاص المحميين: "يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أُخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه."[9] كما أن تنفيذ جريمة التهجير القسري لا يأخذ بالضرورة شكل العنف المباشر، فقد حددت الغرفة الابتدائية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة أن مصطلح "قسري" يمكن أن يشمل القوة المادية، بالإضافة إلى التهديد باستخدام القوة، أو الإكراه الناجم عن الخوف من استخدام العنف، والإجبار، والاعتقال، والقمع النفسي، أو إساءة استخدام القوة، أو فعل الاستفادة من البيئة القسرية. وأوضحت الغرفة أن معيار القسر هنا هو غياب الاختيار الحر للضحية. وعليه فإن موافقة أشخاص على التهجير أو حتى مطالبتهم به يجب أن تنبع من إراداتهم الفردية الحرة وأن تُقيَّم في ضوء الظروف المحيطة بكل حالة. كذلك فإن تدخل المؤسسات غير الحكومية لتسهيل التهجير أو توقيع اتفاقيات بين الأطراف السياسية أو العسكرية أو أي ممثلين عن أطراف النزاع لا يضفي أية صبغة قانونية على هذا التهجير اللاقانوني، لأن الشرط الأساسي هو موافقة الأفراد الحرة.[10]
أولاً: التهجير القسري في مسافر يطا
تبدو المنطقة الواقعة إلى الجنوب من مدينة يطا ما بين الشارع الالتفافي 317 إلى خط الهدنة 1949 من الجنوب، وتتداخل أراضيها مع أراضي عام 1948، ويطلق عليها منطقة مسافر يطا، اليوم، واحدة من أكثر المناطق استهدافاً من قبل قوات الاحتلال وميليشيا المستعمرين، والنتيجة المراد تحقيقها واحدة: تفريغ المنطقة من السكان بعد فرض البيئة القهرية الطاردة على السكان. وهذه المنطقة التي تصنف بشكل كامل على أنها مناطق "ج"، تبلغ مساحتها 57 ألف دونم،[11] وتتكون من 23 خِربة وقرية ما بين أهالي يطا والبدو الذين هُجروا من مناطق بئر السبع والنقب. وإلى جانب ذلك كله أقام المستعمرون، وبرعاية المؤسسة الرسمية في دولة الاحتلال، أكثر من 16 بؤرة ومستعمرة تشكل حزاماً حول المنطقة.[12] هذا إلى جانب إعلان مساحة 32 ألف دونم من مسافر يطا كمنطقة تدريب عسكري،[13] في حين لا يُستخدم لأغراض التدريب العسكري سوى 3% من مجمل المساحة المعلنة، ويتواجد في المنطقة المعلنة للتدريب العسكري 17 تجمعاً فلسطينياً، معظمها موجود قبل احتلال الضفة الغربية عام 1967 وهي: جنبا، والمركز، وحلاوة، وخربة الفخيت، وخربة التبانة، وخربة المجاز، وصفي الفوقا، وصفي التحتا، ومغاير العبيد، وطوبة، وخلة الضبع، والخروبة، وخربة المفقرة، وخربة صرورة، والركيز، وبير العد.
ويظهر التداخل الجغرافي ما بين المسافر والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 سبباً إضافياً يجعل من مسافر يطا هدفاً للأطماع الاستعمارية؛ ففي اجتماع سري عقدته اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان في تموز/ يوليو 1981، عرض أريئيل شارون على الجيش منطقة إطلاق النار المعلن عنها في مسافر يطا، وأكد أن هدفه هو إخلاء الفلسطينيين من المنطقة، بحسب المحضر الرسمي.[14]
وأوضح حينها شارون لرئيس أركان الجيش ما يلي: "لدينا مصلحة كبيرة في التواجد هناك، في ضوء ظاهرة انتشار العرب من القرى باتجاه الصحراء [في الجنوب]". وفي الفترة ذاتها عملت الحكومة الإسرائيلية على إقامة مستوطنات يهودية في المنطقة، وكانت مستوطنات مثل سوسيا وماعون وكارمل جزءاً من سياسة الدولة في عزل السكان الفلسطينيين في النقب الذي يقع داخل إسرائيل، عن السكان الفلسطينيين في جنوب الضفة الغربية، مثل سكان مسافر يطا. "لقد كانت هناك لسنوات عديدة علاقة مادية بين السكان العرب في النقب والسكان العرب في تلال الخليل. وقد نشأ وضع حيث تمتد الحدود داخل أراضينا"، هكذا قال شارون للجنة الاستيطان، وأضاف: "علينا أن ننشئ بسرعة شريطاً عازلاً للاستيطان [اليهودي]، والذي سيميز ويفصل تلال الخليل عن الاستيطان اليهودي في النقب. لدق إسفين بين البدو في النقب والعرب في الخليل". وتظل كلمات شارون ذات أهمية خاصة اليوم، إذ لا يتعرض سكان مسافر يطا فقط لمصادرة أراضيهم من خلال الرفض المنهجي لإصدار تراخيص البناء وإعلانها مناطق إطلاق نار عسكرية، بل أيضاً البدو في النقب.[15]
وكشفت وثيقة إسرائيلية في تموز/ يوليو 2022، أن ما يعرف بمناطق إطلاق النار العسكري في الضفة الغربية المحتلة، والتي تنطبق على أهالي مسافر يطا وتلال جنوب الخليل وسكان الأغوار، أقيمت لتساهم في نقل الأراضي إلى المستوطنات، وذلك بحسب ما جاء في مقال للكاتب يوفال أبراهام، وفقاً لمحضر اجتماع سري عُقد عام 1979 بين شعبة الاستيطان التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية مع الحكومة الإسرائيلية، شارك فيه وزير الزراعة الإسرائيلي في حينه أريئيل شارون، موضحاً أن الهدف من وجود مناطق إطلاق نار في أنحاء الضفة الغربية، هو تسليمها إلى المستوطنين الإسرائيليين في النهاية.[16]
وخلال تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر 1999 هجّر جيش الاحتلال نحو 700 مواطن بالقوة من سكّان 12 قرية وخربة (الركيز، والمفقرة، وخلة الضبع، وصفي الفوقا، وصفي التحتا، والحلاوة، ومغاير العبيد، والمركز، والمجاز، وجنبا، والفخيت، وطوبا) المنتشرة في هذه المنطقة، وأصدر نحو 358 إخطار هدم.[17] ومن أجل طرد السكان تذرّعت السلطات بالحجة الواهية التالية: "السكن بشكل غير قانوني في منطقة إطلاق نار."[18] وبذلك تجاهلت السلطات أن هؤلاء السكان أقاموا بالمنطقة لسنين طويلة قبل الاحتلال وبعده، بعِلم الجهات الرسمية كلها. علاوة على ذلك تتعارض هذه الحجة مع أمر الإغلاق الذي ينصّ على أن الأمر لا يسري على سكان المنطقة المغلقة، فقد عاد السكان بعد أربعة أشهر من التهجير بفعل عدم قبولهم بالقرار وبموجب التماس قُدم إلى المحكمة (517/00). إذ سمح هذا القرار للسكان بالعودة والسكن الموقت في خِربهم، وحاولت الإدارة المدنية فتح قنوات تواصل معهم من أجل نقلهم إلى أماكن أُخرى، لكنهم رفضوا الاقتراح، وبقوا في منازلهم وأرضهم التي يمتلكونها، ومن ثم توقفت الوساطات عام 2005.
خريطة توضح التجمعات المهددة بالتهجير في مسافر يطا عام 2012، من إعداد مكتب الشؤون الإنسانية OCHA
قُدم التماس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية عام 2012 وشمل 8 تجمعات (خربة التبان، وصفي الفوقا، وصفي التحتا، والحلاوة، والمركز، والمجاز، وجنبا، والفخيت). وقد رفضت محكمة الاحتلال كل الالتماسات التي قُدمت من أجل السماح للسكان بالمكوث الدائم على أرضهم وفي منازلهم، والمطالبة بإلغاء قرار منطقة الإغلاق بحجة التدريبات العسكرية المفروض على المنطقة، وبذلك تسارعت وتيرة الهدم في هذه المنطقة منذ عام 2016.[19] وقد عُقدت سلسلة من الجلسات في المحاكم الاسرائيلية (24/2/2021، 15/3/2022، 10/8/2020، 11/1/2017)، وكان قرار محكمة العدل العليا الإسرائيلية الأخير، بتاريخ 5 أيار/ مايو 2022، تهجير هذه الخِرب الثماني، والتي أصبح عدد سكانها اليوم أكثر من 2000 شخص، بحجة امتلاك الجيش الحق في التدريب في هذه المنطقة.[20]
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل عمدت قوات الاحتلال، وفي كثير من المناسبات، إلى إجراء تدريبات عسكرية بالذخيرة الحية بين مساكن المواطنين، ما عرّض السكان لخطر الإصابة، ومن دون التفات إلى أدنى احتياجاتهم الأساسية. لقد عمدت دولة الاحتلال ومن خلال هذا النوع من السلوك إلى ضعضعة الأمان الاجتماعي في هذه المنطقة، وأضافت طبقة جديدة من طبقات فرض البيئة القهرية الطاردة من أجل ترحيل المواطنين من مساكنهم.[21]
وتشير بيانات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لعام 2023 إلى أن دولة الاحتلال استهدفت مسافر يطا بتوزيع إخطارات الهدم، كأكثر منطقة في توزيع إخطارات الهدم على مجمل المناطق الفلسطينية، معللة ذلك بمحاربة البناء غير القانوني للفلسطينيين في هذه المنطقة. لكن من جهة أُخرى، يبدو واضحاً تماماً أن دولة الاحتلال باتت تكثف مؤخراً من استخدامها للأداة التخطيطية[22] في هذا النوع من التجمعات، من أجل محاصرة البناء والنمو الطبيعي الفلسطيني في هذه المناطق، ما يعجّل في رحيلهم، أو بالحد الأدنى يقلّص وجودهم، ويمنع تمددهم إلى مناطق أُخرى.
وتسعى دولة الاحتلال من خلال جملة إجراءاتها الاستيطانية الاستعمارية إلى إلحاق أضرار مباشرة وواسعة بالوجود الفلسطيني في هذه المناطق من خلال فصل منطقة المسافر (المنطقة الواقعة إلى الجنوب من الشارع الالتفافي 317)، ما يؤدي إلى إخلاء السكان، وبالتالي تسهيل وتيسير عملية الاستيطان وبناء سلسلة من المستوطنات شبيهة بمستوطنات غوش عتسيون وأريئيل ومعاليه أدوميم وربطها بشبكة من الطرق والبنية التحتية مع الجنوب، مع تل عراد وبئر السبع. وهذا الأمر يمثل تطهيراً عرقياً للسكان الفلسطينيين في تلك المنطقة. ويعمل الاحتلال أيضاً على طمس الموروث الثقافي الفلسطيني في تلك المنطقة، والذي يعتبر فريداً من نوعه ويسهل تسجيله على قائمة الموروث العالمي لدى منظمة اليونسكو، ونخص بالذكر مئات الكهوف الرومانية التي لا يزال السكان يقطنونها. وفي حال حدوث التهجير، فإن هذا سوف يسهل على الاحتلال بناء رواية توراتية مزعومة عن المنطقة.
كما أن قرار الإخلاء سيؤثر على مصدر رزق مئات العائلات التي تعتمد في معيشتها على تربية الماشية والزراعة، مما سيحولهم إلى عمالة رخيصة في سوق العمل الإسرائيلية، وبالتالي سيؤثر على روح صمودهم، التي تمثل سر بقاء الفلسطيني على أرضه.[23]
مثال: بؤرة زراعية مور والبؤرة الزراعية شبتا جنوبي الخليل
بالإضافة إلى ذلك، أنشأ المستوطنون بؤراً استيطانية مثل مزرعة مور ومزرعة شبتا في جنوب الخليل بهدف طرد السكان والمزارعين الفلسطينيين ومنعهم من الوصول إلى أراضيهم. فقد تأسست بؤرة مور سنة 1999 وبؤرة شبتا سنة 2017، وتستولي البؤرتان على 3180 دونماً. ووفقاً للبيانات الأخيرة من هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، هناك أكثر من 10 بؤر رعوية وزراعية تحاصر التجمعات الفلسطينية في منطقة المسافر، وتشكل منطلقاً لتنفيذ الكثير من الهجمات العنيفة بحق السكان. وعلى الرغم من قلة عدد المستوطنين، المسلحين بالضرورة، في هذه البؤر، فإنها تمتد على مساحات شاسعة من الأراضي بهدف توحيدها مع البؤر الزراعية والرعوية القريبة، لتشكل امتداداً حاضناً لمجمل المستعمرات المقامة على أراضي هذه المنطقة، وتحديداً مستعمرات ماعون وأفيجيل وسوسيا وأساعيل وغيرها.[24]
ثانياً: الضم والتهجير في الأغوار الفلسطينية
تقع الأغوار في الجزء الشرقي من الضفة الغربية، وتمتد من بيسان جنوباً حتى صفد شمالاً، ومن عين جدي حتى النقب جنوباً، ومن منتصف نهر الأردن حتى السفوح الشرقية للضفة الغربية غرباً. وتكمن أهمية الأغوار في كونها تشكل "سلة الغذاء" للفلسطينيين، حيث تشكّل ما نسبته 50% من إجمالي المساحات الزراعية في الضفة الغربية، وتنتج 60% من إجمالي الخضروات، كما أنها تتربع على أهم حوض مائي في فلسطين. يعيش فيها نحو 53 ألف فلسطيني، بما في ذلك مدينة أريحا، وتحتوي على 169 بئراً، حُفر 60% منها في العهد الأردني، وسيطرت إسرائيل على معظمها.[25]
تسيطر إسرائيل فعلياً على 90% من مساحة الأغوار، التي تشكل حدود الدولة الفلسطينية الشرقية،[26] حيث أقامت عشرات المستعمرات والبؤر الاستيطانية بين 27 قرية فلسطينية في الأغوار تتعرض لأنماط التهجير منذ احتلالها عام 1967. وحتى عام 2024، أقيمت على أراضي الأغوار 36 مستوطنة إسرائيلية، غالبيتها زراعية، ويسكنها 16,500 مستوطن، كما أنشأ الاحتلال 29 بؤرة استيطانية جديدة. وتشير هيئة مقاومة الجدار والاستيطان[27] إلى أن الاحتلال هَجَّر ما يزيد على 55 ألفاً من سكان الأغوار منذ عام 1967، بما في ذلك تجمعات سكانية كاملة بحجة الإقامة في مناطق عسكرية، مثل أهالي خربة الحديدية في الأغوار الشمالية.
كل هذه الظروف جعلت من منطقة الأغوار الفلسطينية المنطقة الأكثر هشاشة في التعرض لاعتداءات المستعمرين، وفي انكشاف ظهر التجمعات البدوية أمام التغيرات الميدانية التي عصفت بالمنطقة، ولا سيما بعيد الحرب في أكتوبر 2023، بالإضافة إلى تحول المنطقة برمتها إلى مسرح لاستهداف واسع من ميليشيات المستعمرين الذين استهدفوا التجمعات البدوية متسترين بستار الحرب وقوانين الطوارئ التي فرضتها دولة الاحتلال بعد السابع من أكتوبر. وتشير الكثير من إحصاءات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان إلى أن 28 تجمعاً بدوياً فلسطينياً،[28] تعرضت للتهجير بفعل اعتداءات المستعمرين بعد السابع من أكتوبر، 11 منها تقع في الأغوار الشمالية والوسطى.
وتستخدم دولة الاحتلال أساليب مشابهة لتلك المستخدمة في مسافر يطا، إذ تم إغلاق أكثر من 32 ألف دونم من الأراضي باعتبارها مناطق تدريب عسكري بموجب الأمر العسكري رقم 918. وكانت مناطق الأغوار صاحبة حصة الأسد في حجم الأوامر العسكرية التي تغلق الأراضي بحجة التدريبات العسكرية، ولعل أهمها سلسلة الأوامر العسكرية 900 و901 و902 و903 و904 و905 و906 و907 التي قضت بإغلاق الشريط الحدودي مع الأردن وفق المرسوم رقم 151، والذي بموجبه تم إغلاق ما مساحته 237 ألف دونم من الأراضي على طول الحدود مع الأردن أو المحيطة بشارع رقم 90.[29]
وتتضمن الاعتداءات عمليات هدم ممنهجة تطال البناء الفلسطيني، إذ تشير بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات إلى قيام دولة الاحتلال، على مدار الأعوام الستة الماضية، بهدم ما يزيد على 1000 منشأة، ما بين منازل وخيم سكن وبركسات وحظائر أغنام ووحدات صحية متنقلة وخلايا شمسية في مناطق الأغوار الممتدة بين محافظتي أريحا وطوباس. وعند الحديث عن عمليات الهدم لا يمكن إغفال الحديث عن المتلازمة التخطيطية لهذه العملية، وهي إخطارات وقف العمل (البناء)، فلا يكاد يوجد أي منشأة فلسطينية إلاّ وقام الاحتلال بتوجيه إخطارات إليها تمهيداً لهدمها، كما يقوم الاحتلال بتوجيه إخطارات للعائلات التي تسكن في التجمعات الفلسطينية الواقعة في مناطق الأغوار من أجل إخلاء مساكنهم بحجة التدريبات، ويتبع ذلك حرق وتدمير الأراضي والمحاصيل الزراعية في أثناء التدريبات.
يضاف إلى هذا، الإجراءات المباشرة على الأرض التي تتمثل في مصادرة الجرارات الزراعية والسيارات الخاصة والجرافات التي تعمل في المناطق المصنفة "ج"، وأيضاً مصادرة المساعدات والسيارات التي تحمل تلك المساعدات إلى العائلات كي تتمكن من إعادة بناء مساكنها وحظائر أغنامها التي يقوم الاحتلال بهدمها، وتشمل المصادرات المساعدات المقدمة من الاتحاد الأوروبي. كما يتم تدمير المشاريع التنموية، ومنع تنفيذ المشاريع الجديدة، وهدم المنشآت السكنية، إذ يمعن الاحتلال في تدمير المشاريع المقدمة من المؤسسات المانحة ومن الحكومة الفلسطينية، بما في ذلك إيصال خطوط المياه للتجمعات السكنية التي تقع ضمن المناطق المصنفة "ج"، وتأهيل الطرق، وترميم الآبار، وإقامة خزانات المياه والخيم والبركسات. وتستمر اعتداءات المستعمرين على الرعاة، بحماية جيش الاحتلال وشرطته، ويتم اعتقالهم، ومنعهم من التوجه إلى المراعي، وتوجيه التهم إليهم، وفرض غرامات مالية عليهم لإخلاء سبيلهم. ولعل اللافت في التحولات الأخيرة على صعيد حصول المستعمرين على تفويض بفرض العقوبات، مبادرة مجلس المستوطنات بفرض عقوبات وغرامات باهظة على الرعاة الفلسطينيين بحجة دخول أغنامهم إلى مناطق بعينها.[30]
وفي سياق خطة الضم للأغوار ومناطق شمال البحر الميت، يظهر الطريق السريع 80 (طريق ألون) باعتباره منطقة حدود ضم. وتقدَّر مساحة المنطقة المستهدفة بالضم بنحو 1306 كيلومتر مربع، بحسب الخريطة التي عرضتها حكومة الاحتلال، أي ما يعادل 23% من مساحة الضفة الغربية، منها 1236 كيلومتراً مربعاً تقع ضمن المنطقة المسماة "ج"، التي تقوم عليها 33 مستعمرة و19 بؤرة استيطانية يسكنها 16,000 مستوطن وفق الإحصاء المركزي الإسرائيلي لعام 2022. أمّا الفلسطينيون في الأراضي التي ستتم محاصرتها في منطقتي "أ" و"ب"، المخطط لها أن تبقى تحت سيطرة السلطة الفلسطينية مع طرق الوصول إليها، فتضم 16 تجمعاً، ويسكنها 48,500 مواطن فلسطيني.
البؤرة الزراعية أم زوكا في الأغوار الشمالية
تقع المزرعة الاستيطانية أم زوكا بالقرب من تجمعات سمرا والمكحول في الأغوار الشمالية، وهي واحدة من 9 بؤر زراعية أنشأها مستوطنون في الأغوار الشمالية خلال السنوات الثماني الماضية. أقيمت هذه المزرعة في عام 2016 في موقع كانت تقع فيه قرية فلسطينية تدعى خربة المزوقح، والتي دمرتها إسرائيل بعد احتلال الضفة الغربية. تسيطر البؤرة على مساحة 14,000 دونم، وهي تشكل نموذجاً فاقعاً لسيطرة البؤر الرعوية التي تديرها أعداد قليلة من المستوطنين على مساحات شاسعة من الأرض أولاً، وثانياً لتسخير دولة الاحتلال إعلانات المحميات الطبيعية كوسيلة لتوسيع الاستيطان، إذ صُنفت المنطقة المقامة عليها هذه البؤرة في السنوات الماضية كمحمية طبيعية ضمن إعلانات متتالية لتوسيع المحمية،[31] ما يمنع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم ورعي مواشيهم فيها.
إن المساحة الضخمة التي تمتد عليها البؤرة، والعدد القليل من المستعمرين الذين يديرونها، يظهران المنهجية المتبعة في السيطرة على الأرض؛ عدد قليل من الأشخاص يسيطرون على مساحات شاسعة من الأرض.
الخلاصة
في إطار كل ما تم إيراده في هذه الورقة، فإن مسألة التبادل الوظيفي للأدوار في مسائل السيطرة على الأرض من خلال تفريغها وتهجير سكانها ما بين المؤسسة الرسمية في دولة الاحتلال، المتمثلة في الحكومة والجيش والإدارة المدنية، وميليشيا المستعمرين باعتبارها مؤسسة غير رسمية، أو هكذا يراد أن تتم الإشارة إليها، تبدو شديدة الوضوح بالنظر إلى أن المؤسسة الرسمية تمهد من خلال إجراءاتها المعروفة البيئة المناسبة لتحرك المستعمرين، إذ تذهب الجمعيات الاستيطانية في مسألة إقامة البؤر الزراعية والرعوية على الأراضي التي أعلنتها حكومة الاحتلال أراضي دولة، أو تلك التي تم إغلاقها بحجة التدريب العسكري، والتي يُمنع على الفلسطينيين أصلاً الدخول إليها والعمل فيها. وتشير تقديرات مراكز بحثية إسرائيلية إلى أن حوالي 60% من عموم الأراضي الزراعية التي يفلحها الإسرائيليون تتموضع داخل مناطق عسكرية مغلقة، و76% من عموم الأراضي الزراعية التي يفلحها المستوطنون داخل مناطق تدريب تعود ملكيتها الخاصة إلى فلسطينيين.
وعلى الرغم من ذلك لا يتم تطبيق أي قانون ضد عمليات الغزو هذه، بل على العكس تقوم السلطات بدعمها والتغطية عليها وتعتبرها أيضاً جزءاً لا يتجزأ من العجلة الاقتصادية والمكانية في صناعة الاستيطان.[32] والحقيقة الأهم الآن تشير إلى أن دولة الاحتلال مهدت، وعبر سنوات احتلالها الطويلة، الطريق إلى محاصرة الوجود الفلسطيني في هذه المناطق عبر تقييد العمليات التنموية الفلسطينية، وحجب رخص البناء والتصاريح اللازمة لأي نشاط بشري، ومهاجمتها بالهدم المكثف، ثم مهاجمتها بإنشاء بؤر استيطانية تكمل حلقة العزل والحصار، لتحقق البيئة الطاردة من هذه المناطق.
[1] كيرم نابوت، "قطعان المستوطنين، الرعي والنهب الإسرائيلي في الضفة الغربية"، أيار/ مايو 2022.
[2] "رعي الأغنام.. استيطان أكثر نجاعة من "إنشاء المستوطنات"، "ألترا فلسطين".
[3] زهرة خدرج، "ʾالاستيطان الرعويʿ في الأغوار الفلسطينية يبتلع مزيداً من الأراضي"، "مجلة آفاق البيئة والتنمية".
[4] مؤيد شعبان، "البؤرة في مقابل الترحيل: مخطط قديم يعاد إنتاجه"، "صدى نيوز".
[5] الحارث الحصني، "يدا الاستعمار النشطتان!!"، وكالة "وفا".
[6] مؤيد شعبان، مصدر سبق ذكره.
[7] ماهر الشريف، "عن منطقة الأغوار التي تستعد إسرائيل لضمها"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020.
[8] المادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة.
[9] الفقرة الأولى من المادة 49 لاتفاقية جنيف الرابعة.
[10] ICTY, The Prosecutor v. Radovan Karadžić.
[11] " منطقة ʾمسافر يطاʿ.. قرى فلسطينية يهددها كابوس التهجير القسري منذ عقود"، "الجزيرة نت".
[12] انظر: بتسيلم، "عنف المستوطنين= عنف الدولة".
[13] الإعلان العسكري الأول صدر في عام 1970 ثم تم تعديله في عام 1980 وعام 1982.
[14] Basel Adra and Yuval Abraham, “The Destruction of This Palestinian Community Was Green-Lighted by Israel's Supreme Court”, The Nation (July, 2023).
[15] Ibid.
[16] "مع بداية 2023.. الاحتلال يستعدّ لتهجير سكان 14 قرية في بمسافر يطا"، "ألترا فلسطين".
[17] انظر تقارير هيئة مقاومة الجدار والاستيطان.
[18] Basel Adra, “The photos that once helped save Masafer Yatta from expulsion,” 972 Magazine.
[19] انظر: تقارير انتهاكات الاحتلال.
[20] انظر: Portraits of Resistance in Masafer Yatta
[21] "تدريب عسكريّ في مسافر يطا.. جيش الاحتلال طلب من الأهالي مغادرة مساكنهم"، "ألترا فلسطين".
[22] يشار إلى الأداة التخطيطية باعتبارها وسيلة تنتهجها الإدارة المدنية في محاربة البناء الفلسطيني بالهدم؛ من جهة تحرم الفلسطينيين من رخص البناء، ومن جهة أُخرى تهدم ما يتم بناؤه في المناطق المصنفة ج.
[23] انظر: "تقدير موقف حول البؤر الزراعية والرعوية كآلية للسيطرة على الأرض".
[24] مستعمرات أفيجيل وأساعيل جرت عملية تسوية أوضاعها بالتزامن مع تشكيل حكومة اليمين المتطرف مطلع عام 2023، وتم تخصيص مساحات شاسعة لهذه المستعمرات كمناطق نفوذ، واللافت في أمر تسوية أوضاع هذه البؤر أنه تمت موضعتها تماماً على حدود أمر التدريب العسكري رقم 918 الذي يستهدف أراضي مسافر يطا.
[25] ميرفت صادق وأيمن فضيلات، "الأغوار المهددة بالضم الإسرائيلي.. حدود الفلسطينيين وسلّة غذائهم"، "الجزيرة نت".
[26] ورقة حقائق، "الإجراءات الإسرائيلية في منطقة الأغوار بعد إعلان مخطط الضم"، مركز مسارات.
[27] هيئة حكومية فلسطينية.
[28] انظر: تقرير انتهاكات دولة الاحتلال وإجراءات التوسع الاستعماري للنصف الأول من العام 2024 لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان.
[29] انظر: "حديقة مُقفلة: إعلان المناطق المغلقة داخل الضفة الغربية/ آذار 2015"، منظمة كيرم نبوت.
[30] انظر: "الغرامات الباهظة.. مسار آخر للتضييق على الرعاة".
[31] انظر: "ʾعلى مساحة تزيد عن 12,000 دونمʿ، منطقة الأغوار الفلسطينية محط الاستهداف الإسرائيلي بذريعة ʾالمحميات الطبيعيةʿ".
[32] انظر: "حديقة مُقفلة: إعلان المناطق المغلقة داخل الضفة الغربية/ آذار 2015"، مصدر سبق ذكره.
1