مقدمة
في أدب الخيال العلمي الغربي، وخصوصاً في الأعمال التي تصور مستقبلاً ديستوبياً متشائماً، غالباً ما يظهر الذكاء الاصطناعي كعدو للبشرية، متمرداً ومستقلاً. لكن في واقعنا الحالي، يتخذ الأمر مساراً مختلفاً، فهناك من يسعى لخلق ديستوبيا حقيقية، ليس عبر الذكاء الاصطناعي ككيان مستقل، وإنما كأداة يستخدمها البعض للسيطرة على الآخرين.
في هذا السياق، تسعى إسرائيل، كدولة احتلال، لبناء منظومة؛ آلة إخضاع يديرها الذكاء الاصطناعي (AI Subjugation Machine)، الهدف منها هو السيطرة على الفلسطينيين بطريقة تجعل الاحتلال أقل تكلفة، اقتصادياً وبشرياً، وأكثر استدامة. وهذه المنظومة لا تعتمد على تعزيز أنظمة المراقبة والتنبؤ أو استخدام العنف المباشر فحسب، بل تستخدم أيضاً التلاعب بالعقول من أجل تحقيق سيطرة شاملة تمتد إلى خلق واقع كاذب يوهم الفلسطينيين بأن خضوعهم للاحتلال نابع من إرادتهم وقناعاتهم الحرة.
وعلى الرغم من قوة هذه المنظومة، فإن أحداث 7 أكتوبر في غزة أظهرت أنها ليست مثالية أو متناهية القدرة، وكشفت عن عيوبها.
تهدف هذه الورقة إلى تقديم لمحة عن أبرز استخدامات الذكاء الاصطناعي من جانب الاحتلال لتعزيز سيطرته على الفلسطينيين. وتجادل في أن دولة الاحتلال ترى في هذه التكنولوجيا فرصة استراتيجية لإخضاع الشعب الفلسطيني بطرق أكثر كفاءة: أقل تكلفة من الأساليب التقليدية، وفي الوقت نفسه أكثر فاعلية من كل ما استخدمه الاستعمار من أدوات إخضاع عبر تاريخه.[1]
وعلى الرغم من الإمكانيات الهائلة لهذه التكنولوجيا، فإننا سنستعرض أيضاً نقاط ضعفها وسبل مواجهة تحدياتها.
الخلفية التاريخية والإطار المفاهيمي
سعى الاستعمار دوماً لإحكام سيطرته بتكلفة أقل. ووفقاً للواقعية الهجومية في العلاقات الدولية، ولا سيما نظرية جون ميرشايمر،[2] تسعى الدول لتعزيز نفوذها باستمرار، ولا تتراجع عن ذلك طواعية، فحتى عندما تخلت القوى الغربية عن الاستعمار التقليدي في منتصف القرن العشرين، كان ذلك لارتفاع تكلفة السيطرة المباشرة وتزايد حركات التحرر.
وما بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت العديد من الدول، وخصوصاً في المعسكر الغربي، فيما يسمى "الاستعمار الجديد" وسيلة أقل عنفاً وتكلفة للحفاظ على سيطرتها في الدول الأضعف.[3] وهذا النهج، المدفوع جزئياً بثقافة "تجنب التضحيات" التي بدأت بالنشوء في الغرب في الستينيات (Casualty Aversion)،[4] سمح باستمرار أنواع حديثة وخفية من السيطرة الاستعمارية والاقتصادية والسياسية، وحتى أحياناً على الأرض (من خلال الاحتفاظ بقواعد عسكرية) ، كل ذلك مع تقليل الخسائر، ومع تناغم ظاهري مع خطاب "النظام الليبرالي العالمي" الذي تبنته هذه القوى لتبرير هيمنتها على العالم.
تميز الكيان المحتل بكونه كياناً استيطانياً إحلالياً يعتمد على الرواية الدينية والتاريخية، وكان مستعداً للتمسك بالأرض حتى لو تطلب ذلك دفع أثمان باهظة أكثر مما كان غيره من المستعمرين مستعداً لبذلها. ومع ذلك، وباعتباره جزءاً من المنظومة الغربية التي تنفر من تقديم التضحيات، سعى دائماً إلى حلول تضمن له مزيداً من السيطرة على البشر بأقل تكلفة ممكنة. وفي العقدين الأخيرين، ركز الاحتلال، بشكل خاص، على استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة إخضاع وسيطرة كفوءة. وكان الهدف دائماً هو تعويض قلة العدد والتكلفة الباهظة بآلات ذكية تراقب، وتقرر، وتغسل الأدمغة، وتحارب.. نيابة عنه.
استخدام الذكاء الاصطناعي في سياق الاحتلال
إن توظيف الذكاء الاصطناعي في التعامل مع الفلسطينيين ليس ظاهرة منعزلة، وإنما جزء من اتجاه عالمي لدمج هذه التقنية في أنظمة الإدارة والحكم. وبالتالي، كما تستخدم الدول الذكاء الاصطناعي في تخطيط المدن، يُتوقع أن يستغله الاحتلال في تحليل الجغرافيا وتخطيط التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، ومن أجل فرض قيود على التوسع العمراني الفلسطيني. لن تركز الورقة على نماذج من هذا النوع، لكنها ستسلط الضوء على ثلاثة جوانب رئيسية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في أنظمة الإخضاع المباشر:
1. جمع المعلومات وتحليلها والتنبؤ بالسلوك
لا تفصح إسرائيل عن تفاصيل استخداماتها للذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة ضد الفلسطينيين، باعتبارها أسراراً عسكرية واستخباراتية. لكن يمكن استشفاف بعض هذه القدرات من تقارير إعلامية إسرائيلية، مثل تقرير لموقع Ynet، في عام 2021، تحدث عن معرض نظمه جهاز الشاباك، استهدف كبار المهندسين والمبرمجين في القطاع الخاص، محاولاً استقطابهم للعمل في مجالات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة. وكشف التقرير بشكل مختصر بعض تقنيات الشاباك المستخدمة لمراقبة الفلسطينيين والتنبؤ بأي نية لعمل مقاوم.[5]
على سبيل المثال، يُفهم من التقرير أن الاحتلال يسجل معظم ما يصدر عن الفلسطينيين عبر الوسائط الرقمية، بما في ذلك كل المكالمات الهاتفية، والرسائل الإلكترونية، والتفاعلات على وسائل التواصل الاجتماعي، وبيانات الـGPS، حتى إنه يتيح للاحتلال معرفة مَن مر، ومن أين، ومتى. وكشفت تقارير أُخرى أن ذلك يتم من خلال تقنيات التعرف على الوجوه التي تحلل الصور المأخوذة من كاميرات المراقبة المنتشرة في الشوارع وعلى الحواجز.[6]
والهدف من جمع هذا الكم الهائل من البيانات هو تسخير الذكاء الاصطناعي لتحليلها بشكل يعزز قدرة الاحتلال على السيطرة. فمثلاً، يمكن تحليل محادثة عادية بين جارتين لاستخراج معلومات قيمة عن سلوك أحد أفراد العائلة، ولا حاجة هنا إلى تخصيص بشر يراقبون كل مكالمة، بل يكفي تسجيل كل شيء من كل أحد بشكل آلي، ثم يتم استخدام قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم سياقات الحديث والبحث ضمن البيانات الضخمة عمّا قد يمكنه من لفت انتباه الاستخبارات إلى معلومات دقيقة يبحثون عنها وسط كل هذا الكم من التسجيلات.[7]
ويمكن للذكاء الاصطناعي، من خلال خوارزميات متقدمة، تحليل هذا المحتوى لاستخلاص استنتاجات دقيقة غير مباشرة تتعلق بسلوك أفراد أو جماعات أو المجتمع ككل. كما يمكنه ربط معلومات متفرقة لكشف أنماط خفية؛ مثلاً، من خلال بيانات الـ GPS التي تدل على التواجد في المكان نفسه في الوقت نفسه، والانضمام إلى مجموعات واتساب مشتركة، ومن البيانات في وسائل التواصل الاجتماعي التي تدل على اهتمامات مشتركة، يمكن للنظام استنتاج وجود علاقة ما بين شخصين من المنطقة نفسها، حتى لو كانا يحرصان على إخفائها، وبالتالي إن كان هناك شكوك في أحدهما فهذا يعني حاجة إلى مزيد من المراقبة للشخص الآخر.
وبالإضافة إلى المراقبة، فإن الهدف الأساسي هو التنبؤ بالسلوكيات المحتملة للأفراد والمجموعات، ومنع أعمال المقاومة قبل وقوعها. ووفقاً لتصريحات بعض قادة الاستخبارات، هناك ثقة كبيرة في قدرة الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بالسلوكيات، ما قد يؤدي إلى اعتقالات استباقية. وإلى جانب مراقبة الأفراد، يسعى الاحتلال لفهم التوجهات العامة للمجتمع الفلسطيني، مثل رصد مؤشرات الاحتقان الشعبي التي قد تؤدي إلى اندلاع انتفاضة، واتخاذ إجراءات استباقية لمنعها.[8]
2. الذكاء الاصطناعي في المواجهة العسكرية
في إدارة المعركة
في حالات المواجهة العسكرية، يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً رئيسياً في إدارة المعركة، إذ يساعد في التعامل مع كميات هائلة من المعلومات، وفي اتخاذ قرارات سريعة بناءً على أولويات متغيرة، مما يتطلب استهداف الأهداف بدقة وفي الوقت المناسب، مع التعامل مع الأعداد الكبيرة من الخصوم، ودمج الاستخبارات مع تنفيذ الضربات.
وفي تقرير نُشر في نيسان/ أبريل 2024 في مجلة "972" الإسرائيلية المتخصصة، جرى الكشف عن برنامج يعتمد على الذكاء الاصطناعي يُدعى "لافندر"، والذي تم استخدامه بشكل مكثف خلال حرب غزة الأخيرة. ويقوم هذا البرنامج بتحليل كميات ضخمة من البيانات لتوقع هويات المقاومين وأماكن تواجدهم بناءً على احتمالات إحصائية. واستناداً إلى هذه التحليلات، يقدم البرنامج توصيات حول استهداف أشخاص يُعتقد أنهم منخرطون في المقاومة.[9]
في المناسبة، تشير التقارير إلى أن أغلبية هذه الاستهدافات كانت تتم في منازل المقاومين وهم بين عائلاتهم، بحجة أنها محاولة لتسريع اتخاذ القرارات العسكرية. لكن، طبعاً، لم يكن الهدف القضاء على المقاومين فحسب، بل شمل أيضاً تدمير محيطهم الاجتماعي، إذ تم استخدام هذا التحليل الإحصائي لتبرير عمليات تهجير العائلات وتدمير المنازل والمربعات السكنية على رؤوس قاطنيها. وبالتالي كان هذا البرنامج أداة تعطي تبريراً عملياتياً للهدف الحقيقي لكل هذا القتل، الذي هو التطهير العرقي أو الإبادة الجماعية للفلسطينيين.
الأسلحة الروبوتية والأسراب الآلية
الجانب الآخر من استخدام الذكاء الاصطناعي في المواجهات يتعلق بالأسلحة الروبوتية والطائرات المسيّرة، والتي بدأ الاحتلال باستخدامها بكثافة هذا العام في المواجهات في الضفة الغربية، وليس فقط في غزة. ويعتمد الجيل الحالي من هذه الأنظمة على الذكاء الاصطناعي بشكل محدود، إذ تُدار الطائرات والمركبات الروبوتية المسيرة غالباً عن بُعد بواسطة مشغل لكل وحدة.
لكن الثورة القادمة في هذا المجال ستتمثل في استخدام "الأسراب الروبوتية"، وهي مجموعات ضخمة من الطائرات أو المركبات التي يتحكم فيها الذكاء الاصطناعي بشكل مستقل. ومن المتوقع أن تتمكن هذه الأسراب، التي قد تضم مئات أو آلاف الوحدات، من اتخاذ قرارات ذاتية، مثل مسح مناطق معينة، وفرض حظر التجول، والبحث عن مسلحين.
تستثمر دول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل والصين بشكل كبير في تطوير هذه المنظومات، وتشير المؤشرات إلى أن الاعتماد الميداني عليها قد يصبح واقعاً في أقل من عشر سنوات. وسيغير هذا التحول قواعد المواجهة العسكرية بشكل جذري، مع استخدام أوسع للأسلحة الروبوتية المدعومة بالذكاء الاصطناعي.[10]
3. غسيل الأدمغة والتلاعب بالأفكار
ماذا لو كان هناك فرصة لاختصار كل هذه الجهود قبل الاضطرار إليها؟ ماذا لو لم يفكر الفلسطينيون في المقاومة أصلاً وأصبح قبولهم بالاحتلال طواعية وعن قناعة؟! هذا هو الهدف من الوجه الثالث لاستخدام هذه التكنولوجيا المتقدمة وما يرافقها من تقنيات ونظم.
في عام 2020، كشف هليل كوهين، الأستاذ في الجامعة العبرية، عن محاولات إسرائيل لتغيير تصورات الفلسطينيين عن الاحتلال عبر وسائل التواصل الاجتماعي. مثال لذلك صفحة "بدنا نعيش" على فيسبوك، التي أنشأها جهاز الشاباك لتبدو كصفحة فلسطينية تروج لفكرة أن الفلسطينيين يسعون للهدوء والاستقرار، في مقابل "المقاومين" الذين تضر أعمالهم بحياة الناس.[11]
يستعرض كوهين في مقاله أمثلة مشابهة توضح أن إسرائيل تستثمر جهوداً كبيرة في تغيير وعي الفلسطينيين تجاه الاحتلال. والهدف هو خلق واقع وهمي عبر الإنترنت يُظهر الضفة الغربية كمنطقة يعيش فيها الإسرائيليون والفلسطينيون بسلام، في حين يُصوَّر المقاومون على أنهم عقبة أمام السلام والتقدم. في هذا الإطار، تسعى إسرائيل إلى إقناع الفلسطينيين بأن الاحتلال ليس سيئاً إلى الحد الذي يستدعي المقاومة أو الثورة، وأن المقاومة ذاتها تمثل تهديداً لمصالحهم.
مثال لذلك شركة “Team Jorge"، وهي شركة إسرائيلية صغيرة أُنشئت بواسطة خريجي وحدات استخباراتية تقوم ببيع خدماتها إلى الأنظمة الاستبدادية والأحزاب الفاسدة في مختلف أنحاء العالم، وخصوصاً في آسيا وأفريقيا، وتملك القدرة على إنشاء وإدارة عشرات الآلاف من الحسابات الوهمية باستخدام الذكاء الاصطناعي، وتستخدم هذه الحسابات لصناعة انطباعات زائفة أو إثارة الفتن، حسب طلب العملاء.[12]
تعتمد هذه العمليات على استغلال نقطة ضعف معروفة ومثبتة منذ الخمسينيات في علوم النفس، وهي أن الناس يميلون إلى تشكيل آرائهم بناء على ما يعتقدون أنه رأي الأغلبية، أو رأي الأشخاص الذين يشبهونهم من الناحية الثقافية أو الاجتماعية.[13] وبفضل استغلال البيانات الضخمة والاستهداف الدقيق، يمكن توجيه محتوى محدد لكل فرد أو فئة اجتماعية بناءً على ما يؤثر فيها؛ يدخل الشخص إلى وسائل التواصل الاجتماعي فيجد أن كثيرين حوله يشاركون آراءً أو معلومات تبدو مقنعة، مما يربك قناعاته الأصلية، في حين أن هذه الآراء تأتي من حسابات وهمية يديرها الذكاء الصناعي، حتى إنه، ومع تطور النماذج اللغوية الكبيرة، أصبحت الحسابات الوهمية قادرة على الانخراط في نقاشات مطولة، ما يصعّب التمييز بين الحقيقي والمزيف.
إن جاذبية ومنفعة هذه التكنولوجيا لدولة الاحتلال واضحة، فبدلاً من استثمار الجهد في مواجهة المقاومة، والانتفاضات، أو التمرد، وبدلاً من التضحية بالاقتصاد وحياة الجنود في النزول إلى الميدان لمواجهة المقاومين على الأرض، توفر هذه التكنولوجيا فرصة لخلق واقع لا يوجد فيه المقاوم أو حتى فكرة المقاومة من الأساس. فالسيطرة والإخضاع يبدآن هنا من التلاعب بوعي الناس وقناعاتهم، وهو ما يختصر الجهد الذي تحتاج إليه دولة الاحتلال في أي مرحلة لاحقة.
قدرات آلة الإخضاع: تطور التكنولوجيا في مقابل 7 أكتوبر
حتى الآن، يبدو هذا الاستعراض والتحليل متشائماً بعض الشيء، إذ يتصور استغلال الاحتلال للذكاء الاصطناعي لإنشاء "آلة سيطرة خارقة" قادرة على فرض سيطرة قاهرة على الفلسطينيين. وعلى الرغم من أهمية الاعتراف بمقدار التحدي الذي تشكله هذه الآلة وأهمية التحذير من مخاطرها، فإنه من الضروري وضع الأمور في سياقها الصحيح.
تجربة الشعب الفلسطيني مع استخدام إسرائيل للذكاء الاصطناعي ليست في مصلحة الاحتلال حتى الآن. فعلى سبيل المثال، مقال هليل كوهين السابق ذكره وأدلة أُخرى كثيرة لا مجال لتفصيلها هنا، تؤكد أن الاحتلال بذل جهداً كبيراً في السنوات الأخيرة محاولاً التلاعب بوعي الفلسطينيين في الضفة الغربية، وأيضاً في غزة، باستخدام أدوات تعتمد الذكاء الاصطناعي، وتعمل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات الرقمية. والهدف كان دائماً هو نشر قناعات تعارض فكرة المقاومة، وتعزز الرضى والقبول بالخضوع الطوعي للاحتلال. وأثبتت أحداث 7 أكتوبر وما بعدها أن كل هذه القدرات الموجودة عند الاحتلال لم تنجح في ترسيخ تلك القناعات.
إن عدم قدرة الاحتلال ووحداته الاستخباراتية المختصة على اختراق خطط 7 أكتوبر أو التنبؤ بها هو أيضاً دليل على أن قدرات هذه الآلة الاستخباراتية غير نهائية وغير "إلهية". مثال لذلك قصة يوسي ساريئيل، قائد وحدة الاستخبارات 8200 في جيش الاحتلال، والذي اعتُبر عبقرياً في مجال إدماج الذكاء الاصطناعي بالاستخبارات، إذ كان قد ألّف كتاباً تحت اسم مستعار تحدث فيه بتفاؤل عن قدرات أنظمة الذكاء الاصطناعي عند دمجها بالعنصر البشري على التنبؤ بالأحداث ومواجهتها.[14] لكن في 7 أكتوبر، لم تتمكن هذه "الآلة الخارقة" التي كان يشرف عليها ساريئيل من التنبؤ أو استيعاب نيات وقدرات غزة، على الرغم من الإمكانات الهائلة للتجسس والتحليل.[15]
وأرجع ساريئيل، في رسالة استقالته التي وجهها إلى رؤسائه في أيلول/ سبتمبر 2024، أسباب فشلهم إلى العنصر البشري وليس التكنولوجيا.[16] من هنا، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي، وعلى الرغم من تطوره المذهل، يبقى محدوداً بأمور كثيرة، أحدها خضوعه للرؤية البشرية، والتي ستبقى لها السيادة في المدى المنظور، فالذين يطورون هذه الأنظمة يهدفون إلى جعلها امتداداً لعقولهم، ويُبقون على التحكم البشري فيما يسمونه "Human-on-the-loop" .[17] كما أن ضعف الإنسان الذي يدير هذه الآلة، مثل التكبر وعدم فهم معاناة المظلومين واستعدادهم للتضحية لنيل حقوقهم، يظل عقبة أمام استغلال القدرات الخارقة لهذه الأنظمة. وهذه الثغرة كانت واضحة في حالة ساريئيل ووحدة 8200 التي يقودها يوم 7 أكتوبر.
الخلاصة والنقاش
أنظمة الإخضاع الذكية - إذا جاز تسميتها بذلك - هي أنظمة في تطور مستمر، ولا يكون تأثيرها دائماً مرئياً، ما يجعل تقييم فعاليتها أمراً معقداً وغير قطعي. والمختصون المتابعون لتطور هذه المنظومات، وخصوصاً تلك التي يُتوقع نضوجها في المستقبل القريب، يعربون عن قلقهم من إساءة استخدامها المحتملة من جانب حكومات أو جهات نافذة معينة.[18] ومع ذلك، وكما أظهرت الأحداث منذ السابع من أكتوبر في الحالة الفلسطينية، فإن الإنسان، سواء أكان فرداً أو مجتمعاً، لا يزال أكثر تعقيداً وقوة من قدرة هذه الآلات على السيطرة التامة.
لكن، ما العمل؟ لا يجب أن يدفعنا فشل هذه الأنظمة في حالات معينة أو أوقات محددة إلى شعور مريح بالأمان. كما سبق أن أشرنا، هناك عوامل بنيوية جذرية في طبيعة الاستعمار بشكل عام، وفي طبيعة إسرائيل بشكل خاص، بالإضافة إلى العوامل المرتبطة بالنظام الدولي وتطور التكنولوجيا نفسها، وطبيعة من يمتلك مفاتيحها حتى الآن. وهذه العوامل تجعلنا نتوقع استمرار الاستثمار في تطوير وتحسين هذه الأنظمة من قبل الدول المعنية بالسيطرة العسكرية والاستخباراتية والنفسية على الشعوب الأُخرى، وعلى رأس هذه الدول، دولة الاحتلال.
بالنسبة إلى الفلسطينيين، كمجموعة مستهدفة، من الضروري تعزيز الوعي بمخاطر هذه التكنولوجيا؛ مثلاً يجب فهم أن الأجهزة الخلوية وأي جهاز متصل بالإنترنت يمكن أن يكون وسيلة للتجسس. وفيما يتعلق بالتلاعب بالوعي، يجب أن يكون الناس على دراية بأن المحتوى الذي يرونه على وسائل التواصل الاجتماعي قد يكون مختلقاً مزيفاً وموجهاً لتشكيل وعي مغاير أو مستلب. ومن الضروري أيضاً إعداد متخصصين لفهم قدرات هذه الأنظمة وتطورها، بهدف زيادة الوعي والاستعداد للتحديات المستقبلية.
لكن التحدي ليس مقتصراً على الفلسطينيين وحدهم؛ فهو تهديد للبشرية جمعاء. ويجب العمل على التعاون مع الجهود العالمية للحد من مخاطر إساءة استخدام التكنولوجيا، وكسر احتكار دول وشركات معينة لهذه الأدوات. بالإضافة إلى ذلك، يجب بناء بدائل للمنظومات والمنصات المتحالفة مع القوى الاستعمارية، والعمل مع نشطاء حقوق الإنسان لتسليط الضوء على مخاطر هذه التكنولوجيا على الجميع.
كما ينبغي توعية شعوب الدول التي تطور هذه الأنظمة بخطورتها. فعلى سبيل المثال، بريطانيا والولايات المتحدة دعمتا شركة SCL (الشركة الأم لكامبردج أناليتيكا) المتخصصة بالتلاعب بالوعي، حين استُخدمت ضد الشعب العراقي، لكنها لاحقاً وجدت نفسها ضحية لتلك الأدوات في قضايا داخلية مثل استفتاء بريكست وانتخابات 2016.[19] وحتى الدول "الصديقة" قد تصبح ضحية لهذه الأنظمة، كما حدث عندما استخدمت إسرائيل هذه التكنولوجيا للتأثير في أعضاء الكونغرس الأميركي السود خلال حرب غزة.[20] حتى إن إسرائيل نفسها شهدت قيام بعض وحداتها الاستخباراتية، المكلفة أساساً بالحرب النفسية ضد الفلسطينيين، باستخدام منصات مثل "تلغرام" للتلاعب بعقول الإسرائيليين.[21]
في الختام، تقييد هذا النوع الجديد من أساليب السيطرة والتلاعب لا يصب في مصلحة الفلسطينيين والمستضعفين فحسب، بل يصب في مصلحة البشرية جمعاء. لكن هذا لن يتحقق إلاّ من خلال وعي عالمي وجهود نشطة لمواجهة هذا الخطر.
[1] الجدير بالذكر أن هذه الفكرة سبق أن طُرح بعض أجزائها في إطار تحليل استخدامات أميركا لمنظومات الأسلحة الروبوتية من أجل منظومات سيطرة رخيصة وشبه شُرَطية على العالم.
.G. Shaw, Predator empire: Drone warfare and full spectrum dominance (University of Minnesota Press, 2016)
[2] J. J. Mearsheimer, The tragedy of great power politics (Updated edition) (WW Norton & Company, 2003).
[3] هذا المصطلح الذي استخدمه لأول مرة المهدي بن بركة للتدليل على الفكرة، أو "النيوكولونيالية"، كما وصفها كوامي نكروما لاحقاً.
[4] C. W. Ostrom & B. L. Job, “The president and the political use of force,” American Political Science Review, vol. 80m no. 2 (1986), pp. 541-566; H. Smith, “What costs will democracies bear? A review of popular theories of casualty aversion,” Armed forces & society, vol. 31, no. 4 (2005), pp. 487-512; A. Gat, Victorious and vulnerable: Why democracy won in the 20th century and how it is still imperiled (Rowman & Littlefield, 2010).
[5] T. Shahaf, “The Shin Bet's AI foils terror attacks,” Ynet, 24/12/2029.
[6] Amnesty International, “Israel/OPT: Israeli authorities are using facial recognition technology to entrench apartheid,” 2/5/2023.
[7] يمكن الاستدلال على هذه الفكرة، قضية تسجيل كل شيء، من ذكرها عرضاً في مقابلة أحد قادة الشاباك في مقال شاحاف الذي سبق ذكره في المصادر، وأيضا قياساً على فعل ذلك من قبل أميركا وحلفائها في منظومة العيون الخمس الاستخباراتية والتي كشف عن لثامها سنودن في تسريباته الشهيرة.
[8] Shahaf, op.cit.
[9] Y. Abraham, “‘Lavender': The AI machine directing Israel's bombing spree in Gaza,” +972 Magazine, 3/4/2024.
[10] D. Hambling, “If Drone Swarms Are the Future, China May Be Winning,”.
[11] H. Cohen, “Israel is trying to change Palestinian perception of the occupation,” Haaretz, 8/8/2020.
[12] S. Kirchgaessner, M. Ganguly, D. Pegg, C. Cadwalladr & J. Burke, “Revealed: the hacking and disinformation team meddling in elections,” The Guardian.
[13] S. E. Asch & H. Guetzkow, “Effects of group pressure upon the modification and distortion of judgments,” Organizational Influence Processes, pp. 295–303 (1951).
Brigadier General Y.S., “The human-machine team: How to create synergy between human & artificial intelligence that will revolutionize our world,” 2021.
[15] D. Hambling, op.cit.
[16] Y. Yehoshua, “Commander of Unit 8200 announces retirement from the IDF,” Ynet, September 2024.
[17] P. W. Singer, “In the loop? Armed robots and the future of war,” Brookings Institution, 28/1/2009.
[18] J. A. Goldstein, G. Sastry, M. Musser, R. DiResta, M. Gentzel & K. Sedova, “Generative language models and automated influence operations: Emerging threats and potential mitigations,” arXiv, 10/1/2023.
[19] C. Wylie, Mindf* ck: Cambridge Analytica and the plot to break America (Random House, 2019).
[20] S. Frenkel, “Israel secretly targets U.S. lawmakers with influence campaign on Gaza war,” The New York Times, 5/6/2024.
[21] N. Kubovich, Haaretz, 12/12/22023.
1